ولقد أتانا من مقال نبيّنا ... قول صحيح صادق لا يكذب
لا تستوى أغبار خيل الله فى ... أنف امرئ ودخان نار تلهب (١)
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميّت لا يكذب
وواضح أن ابن المبارك يرفع الجهاد فوق العبادة درجات، حتى ليدعوها بالقياس إليه ضربا من اللعب. وهو يصور الهوة التى تفصل بينهما، فالناسك يقدم لربه دموعه والمجاهد يقدم دماءه، متخذا الخيل العاديات لا فى لهو وإنما فى التضحية والاستشهاد طلبا لرضوان الله، متطيبا بطيب أكثر شذى وعطرا من الطيب الحقيقى، طيب غبار الحرب وسنابك الخيل وهى تقدح الأرض قدحا. ويقول إن الإسلام أعلى الجهاد على النسك والعبادة مشيرا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا يجتمع غبار فى سبيل الله ودخان جهنم فى جوف عبد أبدا» كما يشير إلى ما جاء فى الذكر الحكيم من أن شهيد الجهاد لا يموت، بل يظل حيا عند ربه حيّاة خالدة:
(ولا تحسبنّ الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) وفى موضع آخر من التنزيل: (ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون). وهى ميزة خصّ بها الله سبحانه المستشهدين فى سبيله دون سائر المؤمنين من نساك وغير نساك، إذ جعلهم يحيون فى قبورهم حياة برزخية خاصة لا يعلم حقيقتها سواه.
ولابن المبارك موقف ثان يصور كيف كان الزهاد من العلماء والمحدثين يتعففون فى مثل هذا العصر عن الوظائف ومناصب الدولة خوفا على أنفسهم من أن تغرهم الدنيا فينحرفوا عن الجادّة، فقد ذكروا أن أحد أصحابه وهو إسماعيل بن عليّة ولى الصدقات بالبصرة، فكتب إليه يذكر ذلك ويقول له: أحب أن تبعث إلىّ إخواننا من القرّاء لنشغلهم، فأجابه: القرّاء ضربان: قوم طلبوا هذا الأمر (أى قراءة القرآن) لله فأولئك لا حاجة لهم فى لقائك، وقوم طلبوه للدنيا فأولئك أضرّ على الناس من الشّرط، وألحق بجوابه هذه الأبيات: