للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حقّا هو تمكين العبد بما أودع فيه من القدرة والاستطاعة. وكان ينصر القياس العقلى نصرة شديدة، كما كان يجل العقل إجلالا بعيدا حتى ليرفعه إلى مرتبة مقدسة، وقد مرّت بنا فى الفصل الرابع أبياته التى يشيد فيها به إشادة بالغة، لما أودع الله فيه من المعرفة الفطرية التى تجعل الإنسان يميز الشر من الخير، ويدرك الحسن فيعتنقه والقبيح فيتجنبه، ويقول لولاه لذهب الإدراك والتمييز، بل لفقد الإنسان جوهر إنسانيته. وله مصنفات مختلفة تتصل باعتزاله سجلها ابن النديم فى فهرسته.

وكان حسن الجدال قوى الحجة، وهو يعدّ فى الذروة من فصحاء المتكلمين وبلغائهم، وقد جعله الجاحظ أكثر المعتزلة رواية للشعر، وروى عنه فى بيانه صحيفة طويلة فى البلاغة، تجعله واضع أصولها الأولى فى صورتها الدقيقة، وقد حللناها فى كتابنا «البلاغة (١): تطور وتاريخ». وهى تشهد له ببصره النافذ فى معرفة طبقات الكلام والملاءمة بينها وبين طبقات السامعين.

ولم يكن يروى الشعر فحسب، بل كان أيضا بارعا فى نظمه، غير أنه لم ينظمه فى الأغراض الغنائية التى تعود الشعراء أن ينظموا فيها، بل نظمه فى الاتجاه التعليمى الذى كان أبان بن عبد الحميد قد برع فيه، غير أنه لم يتجه به وجهة من القصص والتاريخ والفقه والمنطق، وإنما اتجه به إلى الرد على أهل المقالات والنحل من خصوم المعتزلة، كما اتجه به إلى ذكر عجائب الله فى صنوف خلقه، مما يمكن أن يدخل فى التاريخ الطبيعى، ويذكر الجاحظ أنه لم ير أحدا أقوى منه على المخمسّ والمزدوج وأنه يفوق أبانا. وليس بين أيدينا شئ من مخمساته، أما مزدوجاته فيذكر ابن المرتضى أن له مزدوجة ردّ فيها على جميع المخالفين للمعتزلة بلغت أربعين ألف بيت، وقد اقتبس منها قطعة أعلن فيها براءته من معاوية كما أسلفنا وكذلك ابن العاص. وأكبر الظن أن القطعة التى أنشدها له صاحب الانتصار فى التبرؤ من الجهمية وصاحبهم جهم مقتبسة هى الأخرى من تلك الأرجوزة وفيها يقول:

ننفيهم عنا ولسنا منهم ... ولا هم منا ولا نرضاهم


(١) انظر كتاب البلاغة: تطور وتاريخ (طبع دار المعارف) ص ٤١ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>