فاللغويون فى القرن الثانى حين أقبلوا على القبائل النجدية يجمعون منها مادتهم إنما كانوا يتحرّون الينابيع التى لا تزال نقية صافية، وليس فى عملهم ما يشكك أى تشكيك فى لغة مكة فى أثناء العصر الجاهلى وفترة نزول القرآن الكريم، فقد التمسوا بغيتهم فى القبائل المجاورة لقريش مثل كنانة وهذيل وبعض عشائر قيس.
ومن المؤكد أن الفوارق فى الجاهلية بين لهجة مكة ولهجات هذه القبائل كانت ضئيلة وأن هذه الفوارق كانت تتسع كلما ابتعدنا جنوبا أو شرقا أو شمالا. على أنه ينبغى أن لا نبالغ فى تصورها، فإن الشعراء تضافروا منذ أوائل العصر الجاهلى على إذاعة اللهجة المكية فى قبائلهم بما كانوا ينظمون فيها من أشعارهم.
ومعنى ذلك أن لهجة قريش لم يبدأ ذيوعها وانتشارها بين العرب فى الإسلام عن طريق القرآن الكريم كما ظن ذلك بعض الباحثين، فقد كانت ذائعة منتشرة بينهم منذ العصر الجاهلى، بل منذ أوائله، فأقدم نصوصه كأحدثها نظم بهذه اللهجة القرشية التى اتخذوها لغة أدبية عامة لهم، والتى سمّيت بعد بالفصحى، فقد كانوا يشعرون بروعتها، فاندفعوا يحاكونها، وقد امتلأت نفوسهم بأهلها ومكانتهم الروحية والاقتصادية والسياسية. ومن غير شك بلغ انتشار هذه اللهجة الذروة فى الإسلام، فقد أقبل العرب فى كل مكان شمالا وجنوبا على الارتشاف من أفاويق لغته، وقد أخذ يعمّمها لا فى أتحاء الجزيرة القاصية وحدها، بل فى كل بلد إسلامى شرقا وغربا، فإذا أعلامها تخفق على الدروب من أواسط آسيا إلى مشارف المحيط الأطلسى.