لغات أقوام آخرين، وفى القرآن الكريم نفسه: {(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ)} فالقرآن بشهادته إنما نزل بلغة قريش، وما دام المستشرقون يسلمون بأنه نزل بالفصحى، مع استثنائنا لفولرز وأضرابه، فإن هذه الفصحى إذن هى نفس لغة قريش التى لم يكن بها عوج من لغات أو لهجات شاذة كالعنعنة والكشكشة وكسر أول المضارع.
وربما كان من الأسباب التى ضللت المستشرقين أيضا ودفعتهم عن محجة الصواب أنهم وجدوا اللغويين حين أخذوا يجمعون مادتهم اللغوية يرحلون إلى قبائل نجدية منحازين عن قريش، وكأنهم نسوا أن الزمن قد تغير وأن مكة دخلها أعاجم كثيرون فى الإسلام وأن الفصحى فيها فى أثناء القرن الثانى قرن جمع اللغة وتدوينها دخلتها شوائب من الأعاجم والموالى الذين كثروا فيها كثرة مفرطة. ومن أجل ذلك رحل اللغويون إلى قبائل نجد التى كانت لا تزال تحتفظ بصفاء لغتها. وقد شاع أن أفصح العرب لعصرهم عليا هوازن وسفلى تميم وأسد وكنانة وهذيل. ويوضح أبو نصر الفارابى السبب فى أنهم اقتصروا على تلك القبائل فى جمع اللغة فيقول:
«والذين عنهم نقلت العربية وبهم اقتدى وعنهم أخذ اللسان العربى من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل فى الغريب وفى الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضرى قط ولا عن سكان البرارى ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الدين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسّان وإياد لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم للنبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بنى حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم (١)».