وإبراهيم (النظام) لهلكت العوام من المعتزلة فإنى أقول إنه قد أنهج لهم سبلا وفتق لهم أمورا واختصر لهم أبوابا ظهرت فيها المنفعة وشملتهم بها النعمة (١)». وقد كان كثير التردد على بغداد منذ عصر الرشيد، حتى إذا كانت سنة ٢٢٠ اختارها دار مقام له، وعقد لنفسه بمسجدها الكبير حلقة للمحاضرة قرر فيها مذهبه الاعتزالى الذى نسب إليه، فتبعه-كما يقول ابن تغرى بردى-خلق كثير، مما جعل اسمه يشيع فى العامة ويدور على كل لسان. ومرّت بنا فى الفصل الثالث كلمة موجزة عن نظريته الاعتزالية، وهى نظرية كانت تقوم على أصول المعتزلة الخمسة التى تحدثنا عنها فى غير هذا الموضع وقد مزج فى قوة بين كلام الفلسفة وأفكار المعتزلة ومال فى آرائه إلى كلام الطبيعيين من الفلاسفة خاصة وانفرد من نظرائه بكثير من الآراء كقوله بأن الله لا يقدر على فعل الشر وإنه إنما يفعل الأصلح لعباده، وقوله بنفى الجوهر الفرد أو الجزء الذى لا يتجزّأ، وقوله إن الله خلق الكائنات دفعة واحدة معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا، غير أن الله أكمن بعضها فى بعض، فآدم لا يتقدم خلقه على خلق أولاده، وهو ما ما يعرف عنده بنظرية الكمون، ومن ذلك قوله إن الجوهر مؤلف من أعراض اجتمعت. وكان يعلى سلطان العقل إعلاء شديدا، ولعل ذلك هو الذى أدّاه إلى إنكار حجية الإجماع والقياس وكأنه خشى فى الأخير إلى نقص الأصل الذى يقاس عليه، ونرى تلميذه الجاحظ المفتون به يعيبه هو نفسه بأنه كان قليل التثبت من صحة المقدمات فى أقيسته، وهو دائم الإشادة بفطنته وغوصه على الدقائق ولطف مداخله إلى أعماق الحقائق.
وله شعر كثير يدور فى كتب التراجم، وهو مطبوع بطوابع المتكلمين والمعتزلة منهم خاصة، إذ نراه يمزجه باصطلاحاتهم نافذا إلى أغوار المعانى، متصرفا فيها تصرف الحاذق الفطن، وملائما بينها إلى أبعد حدود الملاءمة يعينه فى ذلك حسّ دقيق مرهف وشعور رقيق حاد من مثل قوله: