البرمكى كما هجا منصور بن زياد كاتب الرشيد. وممن فتحوا له أبوابهم حينئذ يزيد بن مزيد الشيبانى قائد الرشيد المشهور ممدوح مسلم بن الوليد، ومالك بن على الخزاعى أحد رجال الدولة البارزين ومحمد بن منصور بن زياد الملقب بفتى العسكر، ولعلهم خشوا معرة لسانه. ونراه يولى وجهه نحو بعض بلدان فارس يمدح عمالها، ويقصد أبا دهمان حين ولاه يحيى بن خالد البرمكى سابور، فيحسن إليه ويمدحه ببعض شعره، ويقصد جميل بن محفوظ والى أرّجان، فيلقاه لقاء سيئا، ويتولاه بهجاء مرير، ويقصد الأهواز حيث كان يتولى عمر ابن مساور الكاتب بعض أعمالها، ويعرض عنه، فيصب عليه شواظا من هجائه ويعود إلى بغداد كسيرا، فلا يجد من يقبل عليه حتى من الشعراء رفاقه، ويسلقهم بلسانه، فيعطونه النزر القليل الذى لا يكاد يسد رمقه. ويحس أنه يعيش مضيعا، ويزيده ضياعا أنه لم يكن فيه ما يتنافس الناس بسببه فى اصطحابه ومنادمته إذ كانت العيون تقتحمه كما أسلفنا، وكانت فيه خشونة وجفوة، مع نزق وطول لسان وتعجل فى اللوم والهجاء، فساءت حاله واشتد ضيقا وبرما بالناس، وعاش يتجرع الفاقة والبؤس حتى قالوا إنه كان يلزم بيته فى أطمار بالية وثياب خلقة متواريا عن الناس إلا من أنس إليه.
وأشعاره تسودها روح شعبية قوية حتى فى المديح، فإننا نجده لا يعنى فيه بالجزالة والرصانة التى كانت تشيع حينئذ فى شعر المديح، وأيضا فإنه لا يعنى بمعانيه وأخيلته، وكأنه ينظمه عفو الخاطر، غير متأن ولا متكلف. وإذا كان مديحه يسقط عن مديح نظرائه فإن أهاجيه لا تقل عن أهاجيهم إقذاعا، بل لعل شاعرا معاصرا لم يبلغ من إقذاعه ما بلغه، إذ ملأ أهاجيه بالفحش والألفاظ البذيئة، حتى لنرى شاعرا مثل بشار المعروف بخبث لسانه يخشاه خشية شديدة، حتى ليرتّب له فى كل سنة مائتى درهم رجاء أن يكف عنه لسانه، وأتاه فى بعض السنين، فحاول أن يرده، فما هو إلا أن تمتم بشطور مقذعة حتى فزع بشار ودفع إليه المائتى درهم وقال له: لا يسمعنّ هذا منك الصبيان، وأتاه مرة أخرى، فلم يسرع له بالضريبة، وما إن قال: