توجد فى الشمائل وصاحبه جواد لا يصغو (يميل) إلى داعية المنع ولا يسنح به (يصرفه) نازع العذل.
وقال إبراهيم النظام بن يسار المعتزلى: العشق أرق من الشراب، وأدب من الشباب، وهو من طينة عطرة عجنت فى إناء من الحلى، حلو المجتنى ما اقتصد، فإذا أفرط عاد صلاّ قاتلا، وفسادا معضلا، لا يطمع فى إصلاحه. له سحابة غزيرة على القلوب، فتعشب شغفا وتثمر كلفا. وصريعه دائم اللوعة ضيق المتنفّس طويل الفكر إذا جنّه الليل أرق وإذا أوضحه النهار قلق، صومه البلوى، وإفطاره الشكوى.
ثم قال الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر ومن يليهم، حتى طال الكلام فى العشق بألفاظ مختلفة ومعان تتقارب وتتناسب، وفيما مرّ دليل عليه».
وكنا نتمنى لو أن المسعودى أورد كل ما قاله هؤلاء المتحاورون إذن لورثنا عن العباسيين مأدبة فى العشق تقابل مأدبة أفلاطون. والذى لا شك فيه-كما أسلفنا-أن هذه المأدبة كانت تحت أعين معاصريهم كما كانت تحت بصر من جاءوا بعدهم مثل المسعودى، وأن الشعراء استمدوا منها كثيرا من معانيهم فى العشق والغزل. ومضى المسعودى يذكر بعض ما أثر عن الفلاسفة والأطباء في العشق، مما يقطع بأن العباسيين إن لم يعرفوا مأدبة أفلاطون فقد سقطت إليهم آراء يونانية مختلفة فى الحب والهوى.
وواضح ما فى هذا الحوار عن العشق من دقة فى المعانى ومن حسن سبك وأداء، حتى ليعنى بعض المتحاورين بأن يكون كلامه مسجوعا، مما يدل دلالة بينة على أن المتناظرين كانوا لا يزالون يتعهدون كلامهم ويصوغونه صياغة باهرة، وبذلك أعدوا لتطور النثر تطورا واسعا فى مضامينه الجديدة التى لم يكن للعربية بها عهد وفى أساليبه وما شفعوها به من حسن السبك وجمال الصياغة والأداء.
وليس ذلك فحسب كل ما قدمه فن المناظرة للنثر فى هذا العصر، فقد جعل المتكلمون والمتناظرون وفى مقدمتهم المعتزلة يبحثون فى بلاغة القول ويكثرون من ملاحظاتهم فى هذا الاتجاه على نحو ما صوّرنا ذلك فى غير هذا الموضع، مما أعدّ لوضع أصول البلاغة العربية.