والإعجاب فى كل مكان، وقد أخذ يسيل لها لعاب كل من أحسّ فى نفسه قدرة عليها، حتى يحظى بما يكفل له العيش فضلا عما قد يصيب من رغد ونعيم، ومن أجل ذلك كثر الوافدون على أبواب الدواوين وخاصة من الناشئة ذوى المطامح البعيدة، وكانوا يعرضون أنفسهم، فيمتحنبون امتحانا عسيرا، تبحث فيه مهارتهم الأدبية والعقلية، ومن جاز الامتحان أمرهم رؤساء الدواوين بملازمتهم، ثم ضموهم إلى دواوينهم وترقوا بهم من حال إلى حال، على قدر مهاراتهم حتى بلغوا بهم المنزلة التى يستحقونها، وربما ألحقوهم ببعض الولاة والقواد أو جعلوا لهم التصرف فى بعض الأعمال أو فى بعض دواوين الخراج.
ولم يكن نجاح الكاتب الناشئ هينا، فقد كان لا بدّ له من إحسان صناعة الكتابة، وهو إحسان جعله يتوفر على مادتها اللغوية والأسلوبية، حتى يتقنها الإتقان المنشود من حيث الوضوح والجمال الفنى، أما الوضوح فلأنه كان يكتب غالبا إلى الرعية ولا بد للرعية أن تفهم عنه، وأما من حيث الجمال الفنى فلأنه كان يكتب عن الخلفاء والوزراء والولاة والقواد، ولا بد أن يروعهم ببيانه وبلاغته، وقد توقّف الجاحظ مرارا فى كتاباته يشيد ببراعتهم فى القول وعذوبة آدائهم وطلاوة صياغاتهم من مثل قوله: «إنهم لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة والمعانى المنتخبة وعلى المخارج السهلة والديباجة الكريمة وعلى الطبع المتمكن وعلى السبك الجيد وعلى كل كلام له ماء ورونق وعلى المعانى التى إذا صارت فى الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم وفتحت للسان باب البلاغة ودلّت الأقلام على مدافن الألفاظ وأشارت إلى حسان المعانى (١)».
وكان لا بد لهم بجانب هذه القدرة البلاغية من أن يتقنوا طائفة من المعارف وفى مقدمتها علوم اللسان العربى وعلم الفقه، وكان العلم الأخير ضروريّا لهم، لأنهم كانوا يكتبون فى شئون الخراج وفيما يجب على أهل الذمة أن يؤدوه من أموال، وكذلك كان علم الحساب من الضرورة لهم بمكان. وكانوا يلمون بكل علم مثل الكيمياء والطب والنجوم، وأكبوا على الفلسفة والمنطق ليدعموا عقولهم. ولم يكن ذلك كل ثقافة الكاتب، فقد مضى يقرأ كل ما ترجم من الحكمة اليونانية ومأثور