للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويعزل كما يريد، ولم يلبث الرشيد أن ولى ابنه جعفرا على المغرب كله من الأنبار إلى إفريقية وولّى ابنه الفضل على المشرق كله من النهروان إلى أقصى بلاد الترك، وسبق أن تحدثنا عن ذلك كله فى الفصل الأول من فصول هذا الجزء، ومضى ما نهض به البرامكة فى الشئون الإدارية والثقافية إلى أن نكبهم الرشيد فى سنة ١٨٧ للهجرة إذ أمر بقتل جعفر وحبس أبيه وأخيه الفضل حتى ماتا فى الحبس.

وكان يحيى سيوسا حصيفا دقيق الحس مهذب الذوق رقيق الشعور. وحوّل مجلسه كما أسلفنا إلى ندوة علمية أدبية كبرى يتحاور فيها كبار العلماء من كل صنف. وكان آية فى البلاغة والإيجاز، وتوقف الجهشيارى مرارا ليروى بعض المأثور من كلامه من مثل قوله: «البلاغة أن تكلم كلّ قوم بما يفهمون» وقوله لجعفر ابنه: «يا بنى انتق من كل علم شيئا فإنه من جهل شيئا عاداه وأنا أكره أن تكون عدوّا لشئ من الأدب» وقوله: «الناس يكتبون أحسن ما يسمعون ويحفظون أحسن ما يكتبون، ويتحدثون بأحسن ما يحفظون» وقوله:

«العجب للسلطان كيف يحسن، ولو أساء كل الإساءة لوجد من يزكّيه ويشهد بأنه محسن» وقوله: «لست ترى أحدا تكبّر فى إمارة إلا وقد دل على أن الذى نال فوق قدره، ولست ترى أحدا تواضع فى إمارة إلا وهو فى نفسه أكبر مما نال فى سلطانه». وكتب إلى الرشيد لما نكبه وسجنه رسالة بليغة، وفيها يقول (١):

«من شخص أسلمته ذنوبه وأوثقته عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه. ومال به الزمان، ونزل به الحدثان (٢)، فحلّ فى الضيق بعد السعة وعالج البؤس بعد الدّعة، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل السهاد بعد الهجود (٣).

ساعته شهر، وليلته دهر، قد عاين الموت، وشارف الفوت، جزعا لموجدتك يا أمير المؤمنين وأسفا على ما فات من قربك».


(١) العقد الفريد ٥/ ٦٨ وعرر الحصائص الواضحة للوطواط (طبعة بولاق سنة ١٢٨٤ هـ‍) ص ٤٠٦ وجمهرة رسائل العرب ٣/ ٢٢١.
(٢) الحدثان: نوازل الدهر ونوائبه.
(٣) الهجود: النوم.

<<  <  ج: ص:  >  >>