للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حتى كأنك كنت إلى مفارقتنا مشتاقا، وإلى البعد منا توّاقا، فوقع بعدك بحيث تحبّ من جهتين: إحداهما حلاوة الولاية، والأخرى لذة الراحة منا، فإن يكن ذلك كما رجّيناه قاطعناك مجملين، أو لبسناك على يقين. . وما أدرى ما أقول فى اختيارك ترك الكتب المحدثة عن العتب بالأسرار المفهومة، حتى كأنها محادثة الحضور، على تنائى الدور، والقلوب بها مشاهدة، وإن كانت الأبدان متباعدة، ولئن كذب فيك الرجاء، لقديما عزّ الوفاء، وقد أصبتك من مرارة العتاب بما لا تقيم بعده على قطيعة ولا جفاء، ولا تتوهمن أنى أردت، إعناتك بإعتابى، ولا أن أزرى عليك بكتابى، فإن وصلت فمشكور، وإن قطعت فمعذور، والسلام»

وتأنق يوسف وتنميقه ودقته فى التعبير واضح فى تلك الرسالة، وقد تفنّن الكتاب طويلا حينئذ فى صور الاعتذار، ومن رسالة لمحمد بن الليث فى اعتذاره لشخص ظنّ به بعض الظنون الخاطئة دون تبين ولا روية (١):

«كيف يسعك أن تأخذنى بظن لو كنت فيه على حقيقة علم لما وسعك أخذى ولا عقابى عليه، ولو كانت العقوبة على الذنب الكامن فى سويداء القلب واسعة لك فى حكم الرّب لكان فيما حجبت الغيوب عن العمل ما ينتقل فى القلوب التى لا تثبت على حال، إلا ريثما يتبعها انتقال ما يدعوك إلى أن تمسك عنى، وتقف، حتى تعرف أيمضى رأى أم ينصرف».

وهو يشير إلى معنى نفسى دقيق، وهو أن الخواطر التى تام بالإنسان لا تثبت على حال، ومن أجل ذلك كان الإنسان يتنقل بين لحظات وخواطر متناقضة، ولا يصح أخذ الإنسان بخاطر إلا إذا ثبت فيه وعاش طويلا، فقد يمر به خاطر سريع ويمضى دون أوبة ولا رجعة. ولعل رسالة استعطاف لم تشتهر فى هذا العصر كما اشتهرت رسالة إبراهيم (٢) بن سيابة الشاعر التى استعطف بها يحيى بن خالد البرمكى، وكان قد أنكر منه شيئا، فكتب إليه يترضاه على هذه الشاكله (٣).


(١) جمهرة رسائل العرب ٣/ ١٨٥.
(٢) انظر ترجمته فى الأغانى (طبع دار الكتب) ١٢/ ٨٨ وانظر البيان والتبيين ١/ ٤٠٥ والوزراء والكتاب للجهشيارى ص ٢٠٣.
(٣) البيان والتبيين ٣/ ٢١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>