للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنما أمرنا فى كل هذا كأمرك فى الذى تستغنى به من خاصتك تلك التى لنا، فإن لنا مالك، وهذه التى لنا لك، أليس ما سرّنا سرّك، والله يوفقنا وإياك».

وواضح أنه يتسع فى تصوير صحة الإخاء، وهو يجعل المتودّدين الملحفين فى الأخوة أصنافا، فمنهم من يطلبها للرغبة، وإخاؤه لذلك مشوب، ومنهم من يطلبها للضرورة وإخاؤه بذلك موقوت، بحيث إذا ألمّ بصاحبه مكروه قطعه القطيعة الشنيعة. ويقول إن إخاءه ليس من هذين الضربين الممقوتين، بل هو إخاء سليم صحيح، ويدعوه أن لا يعتل بشغل عنه بخاصة نفسه وانصرافه إلى بعض شئونه فالإخاء الصادق أخص ما ينبغى له أن يشغل صاحبه ويصرفه عن كل شئ سواه.

ومما أكثروا فيه التعازى، وعادة يتحدثون فيها عن نواب المنكوب ببعض أهله على حسن صبره وما ينبغى عليه من التسليم لأمر الله والرضا بقضائه، وقد يعرضون لذم الدنيا وأنها دائما تكدر الصفاء وتنغص السرور، ويروى أن المهدى جزع جزعا شديدا حين ماتت ابنته البانوقة، فأكثر الناس من تعازيه، وكان ممن عزاه إبراهيم بن أبى يحيى الأسلمى بهذه الرسالة الموجزة (١):

«أما بعد فإن أحقّ من عرف حق الله عليه فيما أخذ منه من عظّم حق الله عليه فيما أبقى له. واعلم أن الماضى قبلك هو الباقى لك، وأن الباقى بعدك هو المأجور فيك، وأن أجر الصابرين فيما يصابون به أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون منه».

وكثيرا ما تعاتبوا عتابا رقيقا، وقد يعنفون فى عتابهم، ولكن عنف المتحضر المهذب الذى قد يمسّ ولكنه لا يخدش، ومن رسائلهم الطريفة فى العتاب التى تدل بوضوح على دقة الحس ورهافة الشعور رسالة يوسف بن صبيح إلى محمد بن زياد الحارثى، وفيها يقول (٢):

«حفظك الله وحاطك، رأيتك-أكرمك الله-فى خرجتك هذه رغبت عن مواصلتنا بكتبك، وإبلاغنا خبرك، وقطعتنا قطع ذى السّلوة أو أخى الملة (٣)،


(١) البيان والتبيين ٢/ ٧٤.
(٢) الأوراق للصولى و (قسم الشعراء) ص ١٥٢.
(٣) الملة: الملال.

<<  <  ج: ص:  >  >>