للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان يصنع برسائله، فهو يصوغها غالبا فى عبارات قليلة قد لا تتجاوز سطرين أو ثلاثة، ولكنها مع قلتها تحمل من المعانى والصور النادرة ما يجعلها آية من آيات البلاغة العباسية، فمن ذلك ما كتب به إلى بعض أصحاب السلطان (١).

«أما بعد فإن سحائب وعدك قد أبرقت، فليكن وبلها (٢) سالما من علل المطل، والسلام» وهى صورة طريفة عرف كيف يستتمها وكيف يرسمها فى عبارات موجزة رسما يبهر قارئها ويجعله يكرر النظر فيها. ومن ذلك ما كتب به إلى بعض إخوانه يسأله مواصلة مودته بعد جفوة حادثة (٣):

«لو اعتصم شوقى إليك بمثل سلوّك عنى لم أبذل وجه الرغبة إليك، ولم أتجشّم مرارة تماديك، ولكن استخفّتنا صبابتنا، فاحتملنا قسوتك، لعظيم قدر مودّتك، وأنت أحق من اقتصّ لصلتنا من جفائه، ولشوقنا من إبطائه».

واتسع استخدام الكتّاب للنثر فى كل فنون الشعر، حتى فن الهجاء، بل إن بعض الشعراء كانوا يستخدمونه ويؤثرونه أحيانا على الشعر كما رأينا عند العتّابى وابن سيابة، وكانوا يسلكون فيما يكتبون أحيانا بعض أبيات الشعر من نظمهم أو نظم سواهم، وقد ينثرون معناها قبلها، على نحو ما مرّ بنا آنفا فى رسالة العتّابى. ومن خير ما يصور ذلك رسالة لأبى العتاهية فى هجاء الفضل بن معن بن زائدة، وكان قد استرفده وطلب نواله ببعض شعره، فردّه ردّا غير جميل، مما أغضبه وجعله يكتب إليه بهذه الرسالة (٤):

«أما بعد فإنى توسلت إليك فى طلب نائلك (٥) بأسباب الأمل وذرائع الحمد فرارا من الفقر ورجاء للغنى، فازددت بهما بعدا مما فيه تقربت، وقربا مما فيه تبعّدت. وقد قسمت اللائمة (٦) بينى وبينك، لأنى أخطأت فى سؤالك وأخطأت فى منعى، أمرت باليأس من أهل البخل فسألتهم، ونهيت عن منع أهل الرغبة، فمنعتهم، وفى ذلك أقول:


(١) العقد الفريد ١/ ٢٥٠.
(٢) الوبل: المطر الغزير.
(٣) زهر الآداب ٤/ ١٢٢.
(٤) العقد الفريد ٤/ ٢٣٦.
(٥) النائل: الرفد والعطاء.
(٦) اللائمة: اللوم.

<<  <  ج: ص:  >  >>