للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولهوا عن آجل الثقة، فكانوا بذلك أهل لائمة، ولم يجد المعذرون (١) إلا الصبر على تلك والاستعمال للرأى والاستعداد بالعذر عند المحاجّة».

وواضح أن يحيى بن زياد لا يتحدث هنا عن إخائه لابن المقفع ووداده له، إنما يحدث حديثا عامّا عن الإخاء، فهو ينظر فيه نظرة عامة، أو قل ينظر إليه من حيث هو نظرة كلية يرتفع فيها إلى الحديث عن حقيقته المجرّدة وما ينبغى أن يكفل له من الوفاء. ويراه يقوم على البر، ويتغلغل فى بحث جوهره، فيراه يحتوى مجموعة من الخصال النبيلة لا يتمّ كيانه بدونها وفى مقدمتها الكرم الذى يجعل الأخ يبذل لأخيه ماله، والنجدة التى تجعل الأخ يبذل لأخيه دمه، والصدق الذى يدل على صدق القلب وإخلاص السريرة، والحياء الذى يكفّ صاحبه عن التطاول وسوء الأدب وسورة الغضب، والنجابة التى تحوط صاحبها بحسن الرأى وتبين حقيقة الأمر، والزكانة أو صدق الحسّ الذى يكفل لصاحبه صواب القول والرأى. ويقول يحيى بن زياد لما كان يتطلب الإخاء التحلى بجميع الخصال الحميدة كان على كل شخص أن يتأنّى فى اختيار أخيه وأن يتحبّس حتى لا يتورط فى الأخ السوء، وهو ما يأخذ نفسه به. ومن حوله من الناس صنفان: صنف يعذرونه لأنهم ممن يرون رأيه فى تخير الإخوان، وصنف لا يعذرونه لأنهم يتسرعون إلى بذل إخائهم إلى من يستحقه ومن لا يستحقه، ولذلك سرعان ما ينتقض إخاؤهم وتذوى صداقتهم إذ لا يصيبون بها مواضعها الصحيحة من الإخوان الجديرين بالأخوة.

ومن الرسائل التى نحت هذا النحو من التجريد والنظر من أعلى إلى الموضوع الذى تتحدث فيه رسالة غسّان بن عبد الحميد فى العتاب، وهو يفتتحها على هذه الصورة (٢):

«أما بعد فإن الله جعل العباد أطوارا فى أخلاقهم، كما جعلهم أطوارا فى صورهم وجعل بينهم أمورا يتآلفون عليها ويعملون أحلامهم فيها: من حرم يتجاملون بها، وحقوق يتنازعونها، ومودّة يتعاطونها، وأخوّة يتداولونها ترعى


(١) المعذر: من له عذر.
(٢) جمهرة رسائل العرب ٣/ ١١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>