للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مثل ابن ديصان ومرقيون. مما جعل العرب يتنبهون إلى غايته من هذا النّقل وما كان يتصل به من ترجمة الحكم الفارسية، فقالوا إنه إنما كان يريد على الأقل ببعض ترجماته وتصنيفاته معارضة الذكر الحكيم، وعرض لذلك الباقلانى فقال:

«وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن، وإنما فزعوا إلى الدرة اليتيمة، وهى كتابان: أحدهما يتضمن حكما منقولة. . والآخر فى شئ من الديانات (١)» وقد ألف القاسم بن إبراهيم بن طباطبا المتوفى سنة ٢٤٦ للهجرة كتابا فى نقض زندقته سماه «كتاب الرد على الزنديق اللعين ابن المقفع عليه لعنة الله». وذكر فى أوائله أن ابن المقفع وضع كتابا عاب فيه المرسلين وافترى الكذب على رب العالمين (٢)، ولذلك تصدى له يهدم مزاعمه هدما. وشك أحمد أمين فى هذا الكتاب الذى نسبه ابن طباطبا إلى ابن المقفع، ولا ينفى هذا الشك عنه زندقته فقد شهد بها معاصروه ومن تلاهم ممن قرءوا كتاباته، وكثير منها سقط من يد الزمن.

وكان-مع زندقته-نبيل الخلق وقورا يترفع عن الدّنايا ولا يجعل للهوى سلطانا على عقله، وكان يأخذ نفسه بكل ما يمكن من خصال المروءة والشعور بالكرامة، ويقول الجهشيارى إنه «كان سريّا سخيّا يطعم الطعام ويتسع على كل من احتاج إليه. . وكان يجرى على جماعات من وجوه أهل البصرة والكوفة ما بين الخمسمائة إلى الألفين فى كل شهر». وتروى عنه حكايات مأثورة تدل على كرمه الفياض، كما تروى عنه أخبار تدل على دقة حسه، من ذلك أن عيسى بن على دعاه يوما للغداء فاعتذر بأنه مزكوم، والزكمة قبيحة الحوار، مانعة من عشرة الأحرار (٣). وكان يلفت معاصريه بأدبه الجم، فسأله سائل: من أدّبك؟ فقال: نفسى! إذا رأيت من غيرى حسنا أتيته، وإن رأيت قبيحا أبيته». وكان بقدر الأخوة والصداقة حق قدرهما، وقد بنى عليهما كثيرا من حكمه ونصائحه فى الأدبين: الصغير والكبير وكان ذكيّا ذكاء مفرطا حتى قال ابن سلام: «سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد


(١) إعجاز القرآن (طبع مطبعة الإسلام) ص ١٨.
(٢) كتاب الرد على الزنديق اللعين (نشر جويدى) ص ٨.
(٣) أمالى المرتضى ١/ ١٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>