للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حتى إذا حميت ناره أخذ يقطعه جزءا جزءا ويرمى بكل جزء فى التنور حتى أتى عليه. ويقال إن المنصور إنما أمر بقتله لما ثبت عنده من زندقته وكيده للإسلام، ويبدو أن التعليل الأول لمقتله هو الصحيح، لما صعّب فى صيغة الأمان على المنصور تصعيبا امتهن فيه كرامته ووطئها بالأقدام، إذ طلب إليه أن يكتب بخط يده أنه إن غدر بعمه أو بأحد ممن معه فنساؤه طوالق وعبيده أحرار ودوابّه محرمة عليه والمسلمون فى حل من بيعته بل عليهم أن يحاربوه حتى يعطى عن يد وهو صاغر، وأيضا فإنه إن فعل يكون كافرا خارجا من جميع الأديان. فكان طبيعيّا أن يثور المنصور لكرامته وأن يوعز إلى سفيان بقتله، ويقول الجاحظ إن ابن المقفع أغرى عبد الله بن على بالمنصور، ففطن له وقتل، وأغلب الظن أنه لا يريد بإغرائه لعبد الله بن على سوى صيغة هذا الأمان المشئوم، واختار الرواة فى السنة التى قتل فيها، فقيل سنة ١٤٢ وقيل سنة ١٤٣ وقيل سنة ١٤٥ للهجرة.

وليس معنى استظهارنا أن يكون الأمان السالف هو السبب الحقيقى فى قتل ابن المقفع أننا ننفى عنه الزندقة، فقد شهد بها كثيرون من معاصريه ومن جاءوا بعده، وكان المهدى يقول: «ما وجدت كتاب زندقة قط إلا وأصله ابن المقفع» (١) ويقول المسعودى: «أمعن المهدى فى قتل الملحدين. . لما انتشر من كتب مانى وابن ديصان ومرقيون مما نقله عبد الله بن المقفع وغيره ويترجم من الفارسية والفهلوية إلى العربية» (٢) ويقال إنه مرّ ببيت نار للمجوس بعد إسلامه، فلما رآه أحسّ بحنين شديد إلى دينه المانوى القديم، وأنشد بيتى الأحوص (٣):

يا بيت عاتكة الذى أتعزّل ... حذر العدا وبك كّل

إنى لأمنحك الصدود وإننى ... قسما إليك مع الصدود لا ميل

وقد يكون فى ذلك ما يشير إلى أنه ظل على اعتقاده المانوى القديم فهو يظهر الإسلام ويضمر مانويته، وقد مضى ينقل ديانات قومه المجوسية ومذاهب الملحدين


(١) أمالى المرتضى ١/ ١٣٥.
(٢) مروج الذهب ٤/ ٢٤٢.
(٣) أمالى المرتضى ١/ ١٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>