للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمرا عظيما فى الدماء والفروج والأموال، فيستحلّ الدم والفرج بالحيرة، وهما يحرّمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف فى جوف الكوفة، فيستحلّ فى ناحية منها ما يحرّم فى ناحية أخرى. غير أنه على كثرة ألوانه نافذ على المسلمين فى دمائهم وحرمهم، يقضى به قضاة جائز أمرهم وحكمهم، مع أنه ليس ممن ينظر فى ذلك من أهل العراق وأهل الحجاز فريق إلا قد لجّ بهم العجب مما فى أيديهم والاستخفاف بمن سواهم، فأقحمهم ذلك فى الأمور التى يتبيّغ (١) بها من سمعها من ذوى الألباب. أما من يدّعى لزوم السنة منهم فيجعل ما ليس له سنّتة سنّة، حتى يبلغ ذلك به إلى أن يسفك الدم بغير بينة ولا حجّة على الأمر الذى يزعم أنه سنة، وإذا سئل عن ذلك لم يستطع أن يقول: هريق (٢) فيه دم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أئمة الهدى من بعده، وإذا قيل له: أىّ دم سفك على هذه السنة التى تزعمون؟ قالوا: فعل ذلك عبد الملك ابن مروان أو أمير من بعض أولئك الأمراء. وربما يأخذ بالرأى، فيبلغ به الاعتزام على رأيه أن يقول فى الأمر الجسيم من أمر المسلمين قولا، لا يوافقه عليه أحد من المسلمين، ثم لا يستوحش لانفراده بذلك وإمضائه الحكم عليه، وهو مقرّ بأنه رأى منه، لا يحتجّ بكتاب ولا سنّة. فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسنن المختلفة فترفع إليه فى كتاب، ويرفع معها ما يحتجّ به كل قوم من سنّة أو قياس، ثم نظر فى ذلك أمير المؤمنين وأمضى فى كل قضية رأيه الذى يلهمه الله، ويعزم عليه عزما، وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابا جامعا لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحدا صوابا، ورجونا أن يكون اجتماع السّنن قرينة لاجتماع الأمر برأى أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام آخر، آخر الدهر، إن شاء الله».

ومضى ابن المقفع يذكر أن اختلاف الأحكام إذا كان يرجع إلى سنن مأثورة غير مجمع عليها فينبغى الأخذ بما هو أشبه بالعدل، وإذا كان يرجع إلى استخدام الرأى والقياس، فإن القياس قد يخطئ، وليس المدار على القياس فى حد ذاته،


(١) يتبيغ: يهيج.
(٢) هريق: لغة فى أريق.

<<  <  ج: ص:  >  >>