للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غير أن أبحاث المحدثين أثبتت أن هذا الفصل كان موجودا فى الأصل الفارسى مما يجعلنا نظن أن أصحاب الدعوة المانوية من الفرس استغلّوا الكتاب قبل نقله إلى العربية فى الدعوة لمذهبهم المانوى.

ومثل ابن المقفع فى ترجمة هذا الكتاب مثله فى ترجمة الحكم والآداب الفارسية السياسية والاجتماعية والخلقية يصبّ فى دقة المعنى الذى يترجمه فى القوالب العربية التى تلائمه وتلائم الذوق العربى، بحيث خيّل إلى كثير من القدماء أن كل تلك الترجمات من تأليفه وتصنيفه، إذ لم يجدوا أى فارق فى الصياغة بين ما يترجمه وينشئه. وحقّا حمل عليه الجاحظ فى ترجمته لمنطق أرسطو، إذ لا حظ فى ألفاظه قصورا أحيانا عن أداء المعانى المنطقية (١)، وهو قصور منشؤه صعوبة أداء هذه المعانى لأول مرة فى العربية، ومهما يكن فلو فضل الرائد. وهو إن فاته التوفيق فى نقل المنطق الأرسططاليسى فإنه لم يفته فى بقية ترجماته، وأمامنا كليلة ودمنة التى لا تعدّ آية من آيات بلاغته فحسب بل تعد آية من آيات البلاغة العباسية على الإطلاق. وفى رأينا أن غضّ الجاحظ من ترجمته لمنطق أرسطو هو الذى دفع طه حسين فى كتابه «من حديث الشعر والنثر» إلى التشكك فى مقدرته على أداء المعانى الدقيقة العميقة حتى ليقول عنه: «له عبارات من أجود ما تقرأ فى العربية وبنوع خاص فى الأدب الكبير وفى كليلة ودمنة، ولكنه عند ما يتناول المعانى الضيقة التى تحتاج إلى الدقة فى التعبير يضعف، فيكلف نفسه مشقة ويكلف اللغة مشقة» (٢) ويبلغ من إزرائه عليه أن يقول إنه «كان مستشرقا كغيره من المستشرقين يحسن اللغة العربية فهما، وربما أعياه الأداء فيها» ويستشهد لذلك بأمثلة من رسالة الصحابة والأدب الكبير، كل ما يلاحظ عليها اضطراب فى بعض الضمائر، وكأنه نسى أن الرسالتين تداولتهما أيدى النساخ بعد ابن المقفع وأنه ربما دخلها هذا الارتباك من أيديهم.

والحق أنه أسرف فى إزرائه عليه وفى عده مستشرقا كالمستشرقين الغربيين فى عصرنا، فهؤلاء لا ينشأون فى بيئات عربية كبيئة البصرة التى نشأ فيها ابن المقفع، وهم لا ينقلون إلى العربية آثار قومهم الأدبية على نحو ما كان ينقل ابن المقفع عن


(١) الحيوان ١/ ٧٦.
(٢) من حديث الشعر والنثر ص ٤٨ وما بعدها

<<  <  ج: ص:  >  >>