للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المنصور أن تسخو نفسه عن أموالهم من الصدقات وغيرها مما يجبى منهم، وكأنه نظر فى ذلك إلى فقر بلادهم وجدبها وأنهم كانوا مادة الإسلام والفتوح. ودعاه إلى أن يولى عليهم الخيار من أهل بيته. وطلب إليه أخيرا أن يعين فى الأمصار طائفة من الفقهاء والمحدثين النابهين تكون مهمتهم تأديب العامة وتبصيرها الخطأ ومنعها من البدع والفتن، وبذلك رشّح ابن المقفع لقيام وظيفة المحتسب فى الدولة العباسية، وكان يعهد إليه بمراقبة الأسواق والحكم فيما ينشأ فيها من منازعات وجنايات وما يكون من خطأ فى البيع والشراء أو نقص فى المكاييل والموازين.

وقد يكون ابن المقفع تأثر فى هذه الرسالة ببعض أنظمة الحكم الساسانية وبما سمعه عن قانون جوستنيان الرومانى ولكن من المحقق أنه صدر فيها عن فطنة وقوة ملاحظة لأحوال الدولة الإسلامية فى عصره وما حذقه من شئون السياسة التى استوحاها مما قرأه عند الأوائل. ودائما لا نستطيع أن نخليه فى كتاباته من التأثر بالثقافات الأجنبية إذ كان أكبر من اطلعوا عليها فى عصره، وكان ذهنه من الخصب، بحيث يستنبط كثيرا من الآراء والأفكار وخاصة ما يتصل بالإصلاح الاجتماعى والسياسى. ولعل هذا الإصلاح الذى كان ينشده للدولة العباسية هو الذى دفعه إلى ترجمة القصص الخيالى الهندى، أو بعبارة أخرى ترجمة كليلة ودمنة، ويقال إنها نقلت فى عهد كسرى أنو شروان من الهندية إلى الفهلوية، وقد عثر الباحثون على بعض أصولها الهندية، من مثل «بنج تانترا» ومثل «هتو بادشا» ووجدوا منها بعض أصول فى «المهابهارتا» مما يؤكد أنها هندية الأصول، بل يثبته إثباتا قاطعا (١). ورجّح كثير من الباحثين أن ابن المقفع زاد فى الكتاب بعض الفصول والقصص، ولكن ربما زاد ذلك بعض من جاء بعده، إذ ترجم الكتاب مرارا، شعرا ونثرا، وأكبر الظن أن ابن المقفع لم يزد إلا الفصل الذى وضعه بين يدى القصص وسماه «عرض الكتاب» وذكر البيرونى قديما أنه زاد أيضا باب برزويه «قاصدا تشكيك ضعفى العقائد فى الدين وكسرهم للدعوة إلى مذهب المنانية، وإذا كان متهما فيما زاد لم يخل عن مثله فيما نقل (٢)»


(١) مقدمة كليلة ودمنة (طبع دار المعارف) ص ٣٥ وما بعدها.
(٢) تحقيق ما للهند من مقولة ص ٨٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>