للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جسيما، وقد كان يقال: أعمال ثلاثة لا أحد يستطيعها إلا بمعونة ارتفاع همة وعظم خطر: صحبة الملوك وتجارة البحر ومناجزة العدو. فأعجب الذئب كلامه، فأتى النمر، فشكر له، وأقام بين يديه، وكان لا يعرفه بمثل هذه الذلة. فافتتح الكلام، فقال: أيها الملك إنى لما أنا عليه من المناصحة والموالاة تأملت باب الملك فوجدته خاليا من صالحى الأعوان وثقات الخدم، ولما رأيت الملك كثير الكلف عظيم المؤن رحب الفناء جزل العطاء، وليس له من عبيده من يعينه على مئونته ويكفيه المهم من عمله ندبت نفسى للذى رأيتنى أقوى عليه من حسن السياسة وضبط الناحية التى أتولاها وردّ المنفعة على الملك منها، فأعجب النمر كلامه وطمع فيما وعده، فقال له: صدقت وبررت، وأنا مستكفيك ومقلّدك، فأنظر كيف يكون ضبطك وكفايتك وغناؤك ووفاؤك بما شرطت على نفسك.

اكتب له يا غلام عهده على مناهل الظباء، واجمع له أعمال ما هنالك، فخرج الذئب إلى عمله، واستخلف الثعلب وأحلّه محل الوزير الكاتب».

ومضى الذئب إلى ولايته مستصحبا وزيره، حتى إذا دانت له رعيته واستتبّ أمره وتمكن سلطانه أمسك بما كان يرسله للنمر من الخيرات والطيبات، وراسله النمر وذكّره بعهوده ووعوده، ولكنه ظل سادرا فى غيّه، فكتب إليه يحذره وينذره بالعقاب والنكال، وكان الذئب قد صمم على التمرد ونقض الطاعة، فردّ على النمر بهذه الرسالة العنيفة:

«بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد النبى الكريم، أما بعد فإن كتاب الملك-أمتع الله به-وصل إلىّ بما حذّر فيه وأنذر، وقدّم وأخّر، وفهمته، وقد كان الملك-حفظه الله-أسند إلىّ أمر هذا الثغر المخوف على حين انتشار من العدوّ به، وانقطاع من سبله، واختلاف من الكلمة بين أهله وتفرق من الأهواء فيه، فرأبت (١) صدع الآفة، وجمعت شمل الطاعة وكشفت دجية (٢) الفتنة وأسغت الريق بعد الشّجا (٣)، وقمعت أولى العداوة والبغضاء، وأقمت حقّا كان معلمه (٤) متروكا، ودمغت ضلالة كان طريقها


(١) رأيت: أصلحت.
(٢) الدجية: الظلمة.
(٣) الشجا: الغصة وما يعترض فى الحلق.
(٤) معلمه: مفرد معالمه.

<<  <  ج: ص:  >  >>