للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كتبه ملأت بيتا له إلى قريب من السقف، ثم تقرّأ (تنسك) فأحرقها كلها، بقول الجاحظ: «فلما رجع بعد إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه، كانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية (١)». وكان حماد على ما يظهر يعنى بالرواية أكثر من عنايته بالكتابة، بل لعله لم يكن يعنى بالكتابة، إنما كتب عنه تلاميذه، يقول صاحب الفهرست: «لم ير لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس وصنفت الكتب بعده (٢)». ويروى للمفضل الضبى كتب صنفها، فيها أشعا وأخبار (٣) ومن المؤكد أنه لم يكتب مفضلياته، وإنما أنشدها تلاميذه فحملوها عنه.

ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن الرواة الأولين لم يدونوا ما رووه لطلاّبهم، ولم يكن هذا شأن رواة الشعر وحدهم، بل كان شأن رواة التاريخ الجاهلى جميعهم مثل محمد بن السائب الكلبى فإن ابنه هشاما هو الذى حمل مادة أخباره ودوّنها فى كتبه. ونفس الخليل بن أحمد لم يخلف كتابا فى النحو، بل أملى إملاءات جمع منها سيبوبه كتابه المشهور. وكانوا يتأثرون فى ذلك برواة الحديث، وربما كانت الحاجة عندهم أمسّ، لأن الشعر يحتاج إلى تلقين حتى لا يلحن فيه من ينشده، ولذلك كانوا ينبذون فى أواخر القرن الثانى وأوائل الثالث من يلحن فيه بأنه صحفى يأخذ عن الصحف، ولا يأخذ شفاها عن مشيخة العلماء باللغة والشعر.

ومن ثم ضعّفوا من يروى عن المدونات ولم يقبلوا روايته إلا أن يكون قد أخذها عن شيخ، ولذلك ضعّف ابن سلام رواية من يتداولون الشّعر القديم من كتاب إلى كتاب، يقول: «ليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفى».

والرواة التالون لهؤلاء الرواة المتقدمين هم الذين يرجع الفضل إليهم فى تدوين الشعر الجاهلى تدوينا منهجيا قائما على التوثيق والتجريح، وعلى رأسهم الأصمعى، وقد حصر اهتمامه فى جمع الشعر الجاهلى فى دواوين ومجموعات صحيحة. وكان هؤلاء الرواة المدونون لا يكتفون بالسماع من جلّة الرواة السابقين، فكانوا يرحلون إلى الصحراء العربية ليتوثقوا مما يروونه على نحو ما هو معروف عن الأصمعى


(١) البيان والتبيين ١/ ٣٢١.
(٢) الفهرست (طبعة المطبعة الرحمانية) ص ١٣٥.
(٣) إنباه الرواة (طبعة دار الكتب المصرية) ٣/ ٣٠٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>