للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كثير من الفجر والمجون، وكل شئ من حولهن يغريهن على هذا السلوك الآثم، وصوّر ذلك الجاحظ، فقال: «كيف تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفة، وإنما تكتسب الأهواء وتتعلّم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهى إنما تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها فيما يصدّ عن ذكر الله من لهو الحديث. . . وبين الخلعاء والمجان ومن لا يسمع منه كلمة جدّ، ولا يرجع منه إلى ثقة ولا دين ولا صيانة مروءة. وتروى الحاذقة منهن أربعة آلاف صوت (أغنية) فصاعدا يكون الصوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات، وعدد ما يدخل فى ذلك من الشعر إذا ضرب بعضه ببعض عشرة آلاف بيت، ليس فيها ذكر الله إلا عن غفلة ولا ترهيب من عقاب ولا ترغيب فى ثواب، وإنما بنيت كلها على ذكر. . . القيادة والعشق والصبوة والشوق والعلمة، ثم لا تنفك من الدراسة لصنعتها منكبة؟ ؟ ؟ عليها تأخذها من المطارحين الذين طرحهم كله تجميش وإنشادهم مراودة» (١). وكان الزوار ينالون منهن ما يريدون ما داموا يقدمون للمقيّن هداياهم النفيسة، وكن بدورهن يتخذن من بينهم المعشوقين، فما يزلن يغمزن هذا بعين وذاك بعين، وما يزلن يقمن من حولهن الشباك، وكثير من الشعراء والشباب يتعثرون فيها، وكثيرون كانوا يصلون إلى قلوبهن، وهن لا يحتشمن ولا يتحرّجن، ودائما يقمن حفلات الغناء والموسيقى والرقص.

واستحالت الأديرة فى هذا الجو الماجن إلى دور للعبث واللهو، وهيأ لها ذلك أنها كانت تقدّم لرّوادها الخمور المعتقة. وكانت متناثرة فى ضواحى بغداد وسامراء وغيرهما من مدن العراق، فحوّلها الشعراء والناس إلى مجالس للخمر والمجون، وأكثروا من التغنى بها ووصف متاعهم بخمورها ونشوتها وسقاتها من الرهبان والراهبات، حتى لتؤلّف فى ذلك كتب مستقلة مثل كتاب «الديارات» للشابشتى وهو يكتظ بأشعار ابن المعتز وغيره، وله يذكر لياليه بالمطيرة إحدى متنزهات سامرّاء وبالكرخ وحاناته وبدير السوسى وراهباته (٢):


(١) انظر ثلاث رسائل للجاحظ نشر فنكل ص ٧١ وما بعدها.
(٢) الديارات ص ١٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>