تصوير ما كان عليه الجاهليون-وعرب البوادى لعصرهم-من العيش الخشن ومن الغلظة والأطعمة اليابسة الجافة، وكيف أن العرب كانوا-ولا يزال كثيرون منهم- بدوا رعاة أغنام وإبل، وأين هم من ملك الأكاسرة والقياصرة؟ وأين هم من الحضارة الفارسية الرومية؟ وأين هم من علوم الروم والفرس؟ وكان كثير من العلماء قد كتب فى إفاضة عن مثالب القبائل فى القديم، فاستغل الشعوبيون ذلك واتخذوا منه أسلحة لدعوتهم، وحتى فضائل العرب من مثل الكرم والشجاعة حاولوا طمسها.
ناقضين لها نقضا.
وتصدّى الجاحظ وابن قتيبة لهذه النزعة الآثمة وردّا عليها ردّا عنيفا، أما الجاحظ فعقد فى كتابه «البيان والتبيين» بابا طويلا سماه «كتاب العصا» صوّر فيه طعن الشعوبية على العرب فى خطابتهم، إذ كانوا يشيرون فيها بالعصى والمخاصر، كما كانوا يتكئون على القسىّ، مما يصرف-فى رأى الشعوبيين-الخاطر ويشغل الذهن فى أثناء الخطابة. وزعموا أن الخطابة ليست ميزة ينفرد بها العرب دون سواهم، إذ هى فى جميع الأمم حتى الزنج. وزعموا-فيما زعموا-أن الفرس أخطب من العرب وأن لهم فى صناعة البلاغة كتبا متوارثة. وطعنوا على العرب أيضا فى أسلحتهم الحربية الساذجة بالقياس إلى أسلحة الفرس والروم وما عرفا به من التنظيمات الحربية وآلات الحرب الضخمة من مثل المجانيق والعرّادات. وكل ذلك نازعهم فيه الجاحظ فى عنف شديد، ولكى يبلغ كل ما كان يريد من إفحامهم ومقاومتهم جعل كتابه «البيان والتبيين» ردّا مفحما عليهم، إذ خصصه لعرض الثقافة العربية الخالصة فى صورها المختلفة من الخطابة والشعر والأمثال، كى يروا رؤية العين ما فى هذه الثقافة من قيم بلاغية وجمالية، فينتهوا عن مزاعمهم ويثوبوا إلى سندهم؟ ؟ ؟ . وأما ابن قتيبة فألف فى الرد عليهم مبحثا سماه (١)«كتاب العرب أو الرد على الشعوبية» وهو فى مطالعه يذكر أن من أشد الشعوبيين عدارة للعرب قوما من كتّاب الدواوين امتعضوا لآداب أقوامهم، حتى اعتزى أو انتسب نفر منهم إلى أشراف العجم وأساورتهم، داخلين بذلك فى باب فسيح من الدعوى
(١) انظر هذا الكتاب فى رسائل البلغاء لمحمد كرد على (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص ٣٤٤ وما بعدها.