تعتمد على الأفكار كما تعتمد على المنطق. ومن هنا كان التصوف ليس علما ولا فلسفة ولا مذهبا، وإنما هو أحوال ومقامات، ويقال إنه سئل كيف عرف ربّه؟ فقال:«عرفت ربّى بربى ولولا ربّى لما عرفت ربّى»، وسئل عن الذكر، فقال:«هو غيبة الذاكر عن الذكر»، وقال:«ليس من احتجب عن الخلق بالخلوة كمن احتجب عنهم بالله». وكأنه هو الذى وصل فى قوة بين التصوف وعلم الباطن، أو قل هو الذى فسح فيه للباطن، وقد قال إنه مقصور على الخواص من أهل الله ومن هنا فرق دائما بين الخواص والعوام، ومن قوله:«توبة العوام تكون من الذنوب وتوبة الخواص تكون من الغفلة». وكان يقول:«إياك أن تكون بالمعرفة مدّعيا» يقصد معرفة الصوفية القلبية القائمة على الإدراك الحدسى. ومن قوله أيضا:«الصوفى من إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق» وكان يقول إن العارف (الصوفى) لا يلزم ربه فى حالة واحدة وإنما يلزمه فى الحالات كلها. وكانت تجرى فى كلامه ألفاظ المحبة والوجد، وكان يقول علامة التوكل انقطاع المطامع. . . وكان يقول:«من غلامات المحب لله متابعة حبيب الله فى أخلافه وأفعاله وأوامره وسننه». وفى ذلك ما يدل بوضوح على أنه لم يحدث عنده أى انفصام بين التصوف والشريعة، فهو يكملها بمحتواه وممارساته العملية، بل هو لا يكون له قوام بدونها، وبدون ما شرعت من فرائض ونوافل وعبادة وتقوى.
وكان السّرىّ (١) السّقطى المتوفى سنة ٢٥١ شيخ متصوفة بغداد وإمامهم فى وقته، وكان تاجرا فهجر التجارة ولزم بيته وانقطع للعبادة، ويقال إنه أول من تكلم ببغداد فى لسان التوحيد وحقائق الأحوال، أو هو بعبارة أخرى أول من تكلم فى المقامات والأحوال هناك، وبذلك يكون أول تال لذى النون تحدث فيها حديثا مستفيضا. وكان يقول:«التوكل الانخلاع عن الحول والقوة» و: «من علامات المعرفة بالله القيام بحقوق الله»، وهو بذلك كان يصل بين التصوف والشريعة، بل يجعلها قوامه، ويوضح ذلك أنه سئل عن المتصوف من هو؟ فقال:
(١) راجع فى ترجمة السقطى طبقات الصوفية للسلمى ص ٤١ وابن خلكان وتاريخ دمشق لابن عساكر ٥/ ٧١ وطبقات الشعرانى ١/ ٦٣.