للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اجعلنى لأهلها فداء، وما الجنة؟ ! إنها لعبة صبيان. ونسب إليه أهل بلدته بسطام-فى الجنوب الشرقى لبحر الخزر-أنه زعم أن له معراجا إلى السماء كمعراج الرسول عليه السلام». ولعل فى ذلك ما يدل على أنه وضعت على لسانه من قديم أقوال وقصص غريبة، وكأنه تحول شخصية أسطورية فى تاريخ التصوف ورجاله، ويبدو أنه كانت تجرى على لسانه شطحات وعبارات موهمة كثيرة أعدّت لأن تصبح له هذه الشخصية، غير أنه مما لا ريب فيه أنه صاحب فكرة الفناء فى الذات الإلهية، تلك الفكرة التى أخذت مكانا مهمّا فى التصوف الإسلامى. ويبدو أنه أول من أدخل فى التصوف فكرة السكر بجانب فكرة العشق الإلهى، وفى الرسالة القشيرية أن معاصره الصوفى يحيى بن معاذ كتب إليه: «سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبة الله» فأجابه: «غيرك شرب بحور السموات والأرض وما روى بعد ولسانه خارج من العطش، ويقول هل من مزيد» (١)، وكان ينكر ما يردده الناس عن كرامات الصوفية. وكان يؤمن بأن التصوف لا يقوم بدون الشريعة والمحافظة على فرائضها والصدوع بأوامرها ونواهيها (٢).

ونشعر أن معالم التصوف ومبادئه أخذت فى الوضوح منذ أوائل النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى، حتى لتنشأ طبقه تحاضر فيه مثل يحيى بن معاذ الذى ذكرناه آنفا، ومثل أبى حمزة الصوفى المتوفى سنة ٢٦٩، وهو أول من تكلم على رءوس المنابر ببغداد فى اصطلاحات الصوفية من صفاء الذكر وجمع الهمة والعشق والقرب والأنس (٣)، ومثل أبى سعيد الخراز المتوفى سنة ٢٧٧ وهو أول من توسع فى الكلام عن الفناء (٤). ويظهر حينئذ حمدون (٥) القصّار النيسابورى المتوفى عام ٢٧١ وقد ذهب بعيدا فى تقشفه، إذ دعا مريديه إلى سلوك طريق الملامة بأن يتظاهروا


(١) الرسالة القشيرية ص ١٤٦ وانظر شذرات الذهب ٢/ ١٤٣.
(٢) انظر ترجمته فى ميزان الاعتدال، ويقول الذهبى: ما أحل قوله: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتفع فى الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف هو عند الأمر والنبى وحفظ حدود الشريعة.
(٣) النجوم الزاهرة ٣/ ٤٦.
(٤) طبقات الصوفية السلمى ص ٢٢٣.
(٥) انظر السلمى ص ١١٤ وكتاب الملامتية والصوفية وأهل الفتوة لأبى العلا عفيفى.

<<  <  ج: ص:  >  >>