للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجاحظ، وذكر هو وابن قتيبة أسماء طائفة مشهورة من معلمى الكتاتيب، ونراه يخصّهم برسالة لا تزال منها بقايا بين رسائله المطبوعة على هامش كتاب الكامل للمبرد، وفيها يصوّر نوادرهم وحماقاتهم المضحكة، ومن حينئذ أصبحت شخصية معلم الكتّاب تدور بين الشخصيات الهزلية فى أدبنا العربى، ويقول محمد بن حبيب العالم اللغوى المتوفى سنة ٢٤٥: إذا قلت للرجل ما صناعتك؟ فقال:

معلم صبيان فاصفع، يشير إلى حماقته، وكان ينشد:

من علّم الصّبيان صبّوا عقله ... حتى بنى الخلفاء والخلفاء (١)

وصبّوا عقله: جعلوه مثل عقلهم: عقل الصبيان حمقا وبلاهة، وكأنما تصيب عقله عدوى من عقولهم لطول ملابسته لهم، وابن حبيب يعمم ذلك حتى فيمن يعلمون أبناء الخلفاء وآباءهم حين كانوا فى المهد صغارا. ويقول ابن قتيبة إنهم كانوا يعلمون الصبيان على حسب الهدايا التى كانت تأتيهم من آبائهم (٢)، أو بعبارة أدق على حسب الأجور التى كانوا يأخذونها منهم.

وطبيعى ألا تكون حياة معلم الكتّاب على هذا النحو رافهة، بل كان كثيرا ما يحفّ بها الضيق والبؤس على نحو ما يحدثنا الرواة عن أبى زيد البلخى المتوفى عام ٣٢٢ وكان فى بدء حياته معلم كتّاب، وقد شكا شكوى مرة حينذاك من حياته (٣) البائسة. وكثير من اللغويين والنحاة قبل أن ينالوا شهرتهم العلمية بدءوا معلمى صبية مثل يعقوب بن السكيت المتوفى سنة ٢٤٣، فقد كانت له فى مطالع حياته حلقة فى درب القنطرة ببغداد يؤدّب فيها مع أبيه صبيان العامة (٤). ويخيّل إلى الإنسان كأنما أولاد العامة جميعا كانوا يختلفون إلى الكتاتيب لما استقر فى نفوس آبائهم من ضرورة التعلم وأنه مثل الطعام والشراب لا يمكن الاستغناء عنه، وأن من لم يتعلم فى صغره فاته العلم فى كبره، ومثّلوا العلم فى الكبر بالنقش على الماء، وفى الصغر بالنقش على الحجر يثبت ولا يزول أبدا.

وكان الأولاد يكتبون فى ألواح من الآبنوس أو الخشب، كل على حسب قدرة أبيه


(١) معجم الأدباء لياقوت (طبعة القاهرة) ١٨/ ١١٢.
(٢) عيون الأخبار (طبعة دار الكتب المصرية) ٤/ ٣٩.
(٣) معجم الأدباء ٣/ ٦٥، ٨١.
(٤) تاريخ بغداد للخطيب البغدادى ١٤/ ٢٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>