للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المادية، وكان المعلمون يأخذونهم بالتأديب، فيضربونهم أحيانا أو يحبسونهم، حتى يؤدوا واجباتهم على خير وجه.

وكان معلمو أبناء الخاصة أحسن حالا ومعاشا من معلمى أبناء العامة، ومع ذلك نرى الجاحظ يأسى لحالهم إذ يقول: «يكون الرجل نحويّا عروضيّا وقسّاما فرضيّا وحسن الكتاب جيد الحساب حافظا للقرآن راوية للشعر وهو يرضى أن يعلّم أولادنا بستين درهما، ولو أن رجلا كان حسن البيان حسن التخريج للمعانى ليس عنده غير ذلك لم يرض بألف درهم» (١) وهذا إنما ينصب على معلمى أبناء الطبقة الوسطى، أما من كانوا يعلمون أبناء الخلفاء والوزراء والأمراء والقواد وكبار رجال الدّولة والأعيان وكبار التجار فكانوا يحظون برواتب كبيرة، فمثلا يعقوب ابن السكيت الذى بدأ، كما أسلفنا، معلم كتاتيب حين عهد إليه بعض الحكام فى تعليم ابنه جعل له راتبا شهريّا خمسمائة درهم وسرعان ما جعلها ألفا، واتخذه المتوكل لتعليم ولده وأسنى له الراتب وأجزل فى العطاء (٢)، ولما أسند محمد بن عبد الله ابن طاهر نائب المتوكل على بغداد وجماعة من الخلفاء بعده تعليم ابنه إلى ثعلب الإمام الكوفى النحوى المشهور ظل ثلاث عشرة سنة يتناول الغداء معه على مائدته، وفرض له أن يأخذ يوميّا خبزا فاخرا ولحما كثيرا حين انصرافه إلى منزله وجعل له ألف درهم شهريّا. وقالوا إنه حين مات خلّف واحدا وعشرين ألف درهم وألفى دينار وحوانيت أو دكاكين بباب الشام فى بغداد قيمتها ثلاثة آلاف دينار (٣)، ويقال إن الخاقانى وزير المقتدر أو لم وليمة ضخمة بمناسبة دخول ابن له الكتّاب وأعطى المعلم ألف دينار.

ولم تكن هناك مراحل للتعليم مثلنا اليوم، بل كان الكتّاب يحلّ محل تعليمنا الابتدائى والإعدادى، ومن يريد أن يكمل تعلمه بعده يختلف إلى حلقات المساجد، وكانت أشبه بمعاهد عليا، فلم تكن فقط دورا للعبادة، بل كانت أيضا دورا، بل قل جامعات، للعلم والعلماء، إذ كان لكل عالم فى كل فرع من فروع


(١) البيان والتبيين ١/ ٤٠٣.
(٢) تاريخ بغداد ١٤/ ٢٧٣.
(٣) إنباه الرواة للقفطى (طبعة دار الكتب المصرية) ١/ ١٤٧ وما بعدها ومعجم الأدباء ٥/ ١٢٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>