للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العلم حلقة كبرى، يتخلّق فيها ظلابه من حوله. وكان عادة يستند إلى أسطوانة فى المسجد، ثم يملى محاضراته والطلاب يكتبون، وإذا كانوا كثيرين بحيث لا يسمعه البعيد عنه ردّد مستمل كلامه حتى يستطيع البعيدون عنه سماع ما يقوله وكتابته، وكان العالم لا يغير مكان حلقته الذى اختاره منذ نهض بالتدريس، ويروى أن نفطويه المتوفى سنة ٣٢٣ ظل يملى دروسه فى اللغة والنحو بجامع المنصور ببغداد خمسين سنة وهو جالس إلى أسطوانة بعينها لا يزايل مكانه منها (١). وكانت أكثر الحلقات طلابا حلقات المتكلمين والفقهاء، أما المتكلمون فلكثرة ما كان يجرى بينهم من مناظرات كان الطلاب يختلفون إليها للفرجة والتعلم، وأما الفقهاء فلأن الإلمام بالفقه كان الوسيلة إلى تولى مناصب الحسبة والشرطة والقضاء والولاية أحيانا.

وكان الطلاب يمسكون فى أيديهم بالأقلام والأوراق للكتابة وأمامهم محابرهم، وكانوا يعدّون بالمئات فى بعض الحلقات، ويروى أن الطبرى حين سأله الطلاب الحنابلة عن إمامهم ابن حنبل وخلافه مع بعض الفقهاء وأجابهم بأن خلافه لا يعدّ أو لا يؤبه له رموه بمحابرهم وكانت ألوفا (٢).

وكانت المساجد حينئذ أشبه بجامعات حرة، فالطلاب يختلفون إلى من يشاءون الاستماع إليه بدون أى شرط، منهم من يأخذ الفقه أو الكلام أو الحديث النبوى أو التفسير أو اللغة أو النحو أو الشعر، وكثير منهم كان يأخذ ما عند شيخ، ثم يتحول عنه إلى شيخ آخر أو حلقة أخرى، ويبدو أن بعض علماء النحو واللغة كان يتقاضى من طلابه أجورا على حسب قدرتهم، ففى أخبار الزجّاج أنه رغب فى تعلم النحو فلزم حلقة المبرد بجامع بغداد لتعلمه، فسأله أى شئ صناعتك؟ فأجابه:

أخرط الزجاج وكسبى فى كل يوم درهم ونصف، وأريد أن تهتم بتعليمى وأنا أعطيك كل يوم درهما، وسأظل أعطيك إياه أبد الدهر، فلزمه وعنى بتخريجه، وطلبت منه أسرة معلما شابّا يعلم أولادهم النحو فسمّاه لهم؛ وعلم أولادهم وظل يعطى المبرد فى كل شهر ثلاثين درهما ويزيده بما يقدر عليه (٣). ويبدو أن المبرد كان شحيحا بعلمه، إذ فى تاريخه أن المتوكل والفتح بن خاقان وزيره كانا يجزلان له فى العطاء حتى إذا توفيا أجرى عليه محمد بن عبد الله بن طاهر حاكم بغداد راتبا


(١) معجم الأدباء ١/ ٢٥٦.
(٢) معجم الأدباء ١٨/ ٥٨.
(٣) معجم الأدباء ١/ ١٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>