للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فرد من أفراد العامة لعصره كان يظن نفسه نال حظا أو حظوظا من مناهج المتكلمين فى جدال أصحاب الملل والنحل الضالة. وظاهرة ثانية تدل على مدى تغلغل الثقافة بين جميع أفراد الأمة بلا استثناء، إذ نرى من النساء من يختلفن إلى حلقات المتكلمين (١) والفقهاء وغيرهم، ويبدو أنه برّزت حينئذ فى الثقافة الدينية غير امرأة حتى لنرى-كما مر بنا-قهرمانة لأم المقتدر، هى ثمل، تجلس فى سنة ٣٠٦ لسماع المظالم والحكم بين المتظالمين ويجلس معها القضاة والعلماء، واختلف الفقهاء حينئذ فى جواز ولاية المرأة للقضاء، وأجاز ذلك الطبرى (٢)، وهى فتوى تدل على ما بلغته المرأة من التعمق فى الفقه وعلوم الشريعة لهذا العصر، ولابن بسام المتوفى سنة ٣٠٣ أبيات يقول فيها (٣):

ما للنساء وللكتا ... بة والعمالة والخطابه

وقد يدل البيت على أن من النساء حينئذ من كنّ يطالبن بمساواة المرأة بالرجل فى الوظائف المهمة مثل كتابة الدواوين وولاية الأقاليم والخطابة فى المحافل العظام.

ولم تكن هذه الجوانب وحدها ثمار اشتراك الطبقة الشعبية العامة فى العلم والثقافة، فقد كانت هناك ثمرة مهمة غاية الأهمية، هى محاولة أن يصبح العلم شعبيّا بحيث لا يعلو على أفهام العامة، وبحيث يصل إليهم من أسهل الطرق وأيسرها، ويتضح ذلك عند الجاحظ فى كتابه «البيان والتبيين» و «الحيوان» وعند ابن قتيبة فى كتابه «عيون الأخبار». ومرّ بنا أن الجاحظ أراد بكتابه «البيان والتبيين» أن يردّ على الشعوبية ردا مفحما ببيان ما تحمل الثقافة العربية فى الخطابة والشعر والأمثال من قيم بلاغية رائعة، ونضيف هنا أنه أراد أن يذلل هذه الثقافة بعرضها فى أسلوب عصرى يقرّبها من أفهام العامة بحيث تسيغها بدون أى عسر أو مشقة. وبون بعيد بين عرض هذه الثقافة عند اللغويين من أمثال الأصمعى وأبى عبيدة وأبى زيد وعرضها عند الجاحظ فى البيان والتبيين، فهى عند الأولين جافة جفافا شديدا ولا يستطيع غير المتخصصين فهمها والفقه بمسائلها العويصة، أما فى البيان والتبيين فعذبة سائغة لا للطبقة الوسطى من المثقفين فقط، بل أيضا للطبقة الشعبية الدنيا. وبالمثل عرضه


(١) انظر ترجمة الأشعرى فى ابن خلكان.
(٢) الأحكام السلطانية للماوردى ص ١٠٧.
(٣) صح الأعشى (طبعة دار الكتب المصرية) ١/ ٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>