للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابن سهل من أن نفسه دعته وهو فى عنفوان شبابه إلى أن يرحل عن بلخ ويدخل أرض العراق ويجثو بين أيدى العلماء ويقتبس منهم العلوم، فتوجّه إليها راحلا مع الحاج وأقام بها ثمانى سنوات، فطوّف البلاد المتاخمة لها، ولقى الكبار والأعيان وتتلمذ لأبى يوسف يعقوب بن إسحق الكندى، وحصّل من عنده علوما جمّة، وتعمّق فى علم الفلسفة، وهجم على أسرار علم التنجيم والهيئة، وبرّز فى علوم الطب والطبائع وبحث فى أصول الدين (١)». وأكبر من شغفوا بالرحلة فى العصر المحدّثون، لأن الصحابة كانوا قد نزلوا فى أمصار العالم الإسلامى من إيران إلى المغرب، وكانوا يروون أحاديث كثيرة عن الرسول حملها عنهم تلاميذهم من التابعين ومن جاءوا بعدهم، فكان فى كل مصر أحاديث لا تعرفها الأمصار الأخرى، فرحل مصنفو الحديث وحفّاظه فى طلبها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ورحلة البخارى من خراسان إلى مدن إيران والعراق والحجاز والشام ومصر مشهورة، ومثله بقية المحدثين الذين جمعوا متفرقات الأحاديث فى العالم الإسلامى. وسنرى الرحلة تشيع بين المترجمين إلى بلاد الروم، كما سنراها تشيع بين الجغرافيين ليصفوا ما شاهدوه بأعينهم، وكذلك سنراها تشيع بين المؤرخين من أمثال المسعودى.

ويبدو أن الشغف المفرط بالعلم لم يكن مقصورا على الطبقات الخاصة من العلماء ومن يبتغون من الطلاب أن يكونوا على شاكلة أساتذتهم المتخصصين، بل كان حظّا مشتركا بين الطبقات العامة، إذ كان العلم مطروحا فى المساجد مباحا للجميع، وكذلك فى المكتبات العامة، ولم يكن هناك كتاب طريف إلا وتعرضه دكاكين الوراقين. ويدل على ذلك أكبر الدلالة أن من يرجع إلى تراجم العلماء سيجد كثرتهم الغامرة من الطبقة العامة، وتصور ذلك ألقابهم من مثل الحدّاد والخزّاز والقواريرى والتمّار والقوّاس والنبّال والقلاّل والعطار والمطرّز. وأبعد من ذلك وأعمق أن نجد الجاحظ فى رسالته «الرد على النصارى» يشكو من مناقشة العامة للملحدين والزنادقة فى آرائهم الضالة، لعدم معرفتهم الدقيقة بتلك الآراء وما يفندها من الأدلة الساطعة، حتى ليقول: «ومن البلاء أن كل إنسان من المسلمين يرى أنه متكلم وأنه ليس أحد أحق بمحاجة الملحدين من أحد»، وكأن كل


(١) معجم الأدباء ٣/ ٧٢

<<  <  ج: ص:  >  >>