للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عنها، فما بالنا بمكتبات المؤلفين العظام فى العصر، وكثير منهم ألّف مكتبة ضخمة فلو لم يكن له سوى مؤلفاته لكانت لديه منها خزانة كتب حافلة، ويكفى أن نذكر مثلا الجاحظ وقد خلف من الكتب العظام وعشرات الرسائل ما يؤلف مكتبة كبيرة. ومما لا ريب فيه أن مكتبته كانت تحتوى المصنفات التى جمع منها المادة اللغوية والأدبية والكلامية لكتبه. ونذكر بجانبه الطبرى، وقد أحصى بعض تلاميذه الأوراق التى كتبها وألّف منها كتبه، فقال إنه مكث أربعين سنة يكتب فى كل يوم أربعين ورقة، وحسب آخرون أوراق كتبه من يوم ولد إلى أن مات فوجدوه كتب كل يوم أربع عشرة ورقة (١).

ويحسّ كل من يتعقب الحركة العلمية فى العصر كأن سباقا نشب بين العلماء والعلم، فهم يجدّون فى طلبه وتحصيله وهم يصارعونه صراعا متصلا يريدون أن يذللوه ويقهروه فى جميع الميادين. وهو صراع كان يداخله شغف شديد به، كما كان يداخله إيمان بأنه لن يخضع لهم إلا إذا تجرّدوا له وتوفّروا عليه وأمصوا فيه بياض النهار وسواد الليل فى غير كلل ولا ملل، بل فى حب لا يفوقه حب، ويحدثنا الرواة عن كثيرين عشقوا الكتب أو بعبارة أخرى العلم عشقا لا يشبهه عشق، ويقول أبو هفان: «لم أر قط ولا سمعت من أحبّ الكتب أكثر من ثلاثة:

الجاحظ فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان حتى إنه كان يكترى دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر، والفتح بن خاقان فإنه كان يحضر لمجالسة المتوكل، فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتابا من كمه أو خفّه وقرأه فى مجلس المتوكل إلى حين عوده إليه، وإسماعيل بن إسحق القاضى فإنى ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر فى كتاب أو يقلب كتبا أو ينفضها (٢)».

وهذا الشغف العلمى الشديد هو الذى دفع العلماء إلى الرحلة من بلد بعيد إلى بلد بعيد طلبا للعلم، مهما تجشموا فى ذلك من مشاق، فكان اللغويون يرحلون إلى البوادى محتملين ما فيها من شظف العيش وخشونته فى سبيل جمع اللغة، وكان الفقهاء يرحلون بدورهم للتتلمذ على أئمتهم، ومثلهم العلماء المختلفون فى كل فرع من فروع العلم، ومن خير ما يصور ذلك ما رواه ياقوت عن أبى زيد البلخىّ أحمد


(١) السبكى ٣/ ١٢٢ وما بعدها
(٢) معجم الأدباء ١٦/ ٧٥

<<  <  ج: ص:  >  >>