والمانويين الثّنويين نزالا عنيفا. وكانت مناظراتهم لهذه الفرق لا تتوقف يوما، والناس يتجمعون حولهم فى المساجد يسمعون ويتفرجون، وقد جذبوا الشباب إليهم، بحيث كانت حلقاتهم أكبر الحلقات وأوفرها سامعين. وقد عكفوا على الثقافات والمعارف الأجنبية يتزودون بها، وخاصة الفلسفة اليونانية وما يتصل بها من منطق، وسرعان ما كوّنوا لأنفسهم مذهبا ضخما تميز بأصوله الخمسة المعروفة، وهى التوحيد والعدل والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والقول بأن مرتكب الكبيرة فى منزلة وسطى بين منزلتى المؤمن والكافر. وأخذوا على هدى ثقافتهم يتعمقون فى مسائل الطبيعة وما وراء الطبيعة، وإذا أئمتهم ينفذون إلى آراء جديدة كل الجدة فى البحوث الطبيعية والفلسفية والإلهية، بل إن منهم من استطاع أن يكوّن له فلسفة مستقلة، فتلك فلسفة واصلية نسبة إلى واصل بن عطاء المتوفى لآخر العصر الأموى، وهذه فلسفة بشرية نسبة إلى بشر بن المعتمر أو ثمامية نسبة إلى ثمامة بن أشرس أو هذيلية نسبة إلى أبى الهذيل أو نظّامية نسبة إلى النّظام. وعلى هذا النحو لم يتكوّن للاعتزال أئمة أو باحثون ممتازون فقط بل تكوّن له هؤلاء الفلاسفة فى العصر العباسى الأول، وهو العصر الذى بلغ فيه الاعتزال الذروة المأمولة، حتى لتصبح له السيطرة التامة على الحكم فى عهود المأمون والمعتصم والواثق، فإذا أئمته يحملون علماء الدين كرها على القول بخلق القرآن، وتنشب المحنة المعروفة، ويمتحن كثير من الفقهاء ويسامون العذاب. وكان ذلك نذير شؤم، إذ أسخطوا الفقهاء والمحدّثين والناس عليهم، وسرعان ما دالت دولتهم مع افتتاح العصر العباسى الثانى، إذ ولى المتوكل الخلافة ولم يلبث أن أعلن إبطال القول بخلق القرآن، واستقدم المحدّثين إلى سامرّاء عاصمته وأجزل عطاياهم وأمرهم بالجلوس إلى الناس وإظهار السنة والأخذ بالتسليم. وكان من أثر ذلك أن اندحر المعتزلة على حين انتصر الفقهاء والمحدّثون، وأخذ كثير منهم يجرّحون المعتزلة، وقوى نفوذهم وسلطانهم على العامة، ولم يستطع المعتزلة بعد ذلك أن يستردوا سلطانهم.
على أن الاعتزال استمر فى نشاطه، وخاصة أن كثيرين من تلاميذ فلاسفته الذين سميناهم عاشوا فى العصر العباسى الثانى، ومنهم من طالت حياتهم فيه،