من الدواوين القديمة الجاهلية والإسلامية، وما أخذوا يجمعونه من دواوين العصر العباسى للشعراء النابهين، وكانوا يشرحون ما يجمعونه من أشعار تلك الدواوين حتى تفقهه الناشئة فقها حسنا، وشاركهم الشعراء فى هذا الصنيع على نحو ما مر بنا فى الفصل السالف مما صورناه عند أبى تمام والبحترى، وقد يكون مما دفعهما إلى هذه المشاركة أنهما وجدا اللغويين يهتمون فى كثير من الأمر بالشعر الغريب، ليتخذوا منه مادة للتعليم على نحو ما يلقانا فى كتابات ابن السكيت وثعلب، فأرادا أن يقفا الناشئة بجانب ذلك على طرائف الشعر القديم والحديث، وكان كثير من اللغويين قد عنى بالترجمة للشعراء القدماء الجاهليين والإسلاميين، فانبرى بعض الشعراء والأدباء يترجم للشعراء العباسيين فى كتب يفردها لهم، كما يلقانا فى كتاب طبقات الشعراء المحدثين لابن المعتز وكتاب الورقة لمحمد بن داود بن الجراح، وجمع ابن قتيبة بين القدماء والمحدثين فى كتابه «الشعر والشعراء». وكانت قد سبقت ذلك كله كتب فى تراجمهم للأصمعى وأبى عبيدة ودعبل، وكتاب طبقات الشعراء لابن سلام مشهور.
وكل ذلك مكّن الناشئة من إتقان العربية والوقوف على كثير من أسرارها التركيبية والموسيقية، وزاد من وقوفهم على هذه الأسرار أن بيئة المتكلمين أخذت تعنى منذ القرن الثانى الهجرى بتلقين الناشئة بعض قواعد البيان والبلاغة، حتى يحسنوا الجدل والحوار وحتى يخلبوا ألباب سامعيهم، وإذا هذه القواعد تتفجر على ألسنتهم عند بشر بن المعتمر وأمثاله، وإذا الجاحظ يؤلف فى ملاحظاتهم وملاحظاته البيانية كتابه «البيان والتبيين» مصوّرا فيه كثيرا من أسرار البيان العربى تصويرا يتيح للشباب أن يقفوا فى غير مشقّة على خصائص العربية وأن يتذوّقوا هذه الخصائص تذوقا دقيقا. وشارك الجاحظ فى هذا المجال كثير من اللغويين، على نحو ما مرّ بنا فى الفصل السالف أمثال أبى عبيدة والمبرد، ولم يلبث أن انبرى شاعر نابه هو ابن المعتز لتصوير فنون البيان الشعرى الرائع فى كتابه «البديع» واستطاع أن يضع لها المصطلحات التى كانت تجمعها فى عصره، وأن يتيح لها من التعريف بها ووصف أساليبها ما لم يتح لمتكلم أو لغوى أو شاعر من قبله، باثا فى ثنايا ذلك ملاحظات دقيقة فى الفن الشعرى وجماله المتنوع الذى لا ينضب معينه.