للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومعنى ذلك كله أن العربية بخصائصها الجمالية والموسيقية والصرفية والنحوية وضعت تحت أعين الناشئة فى القرن الثالث الهجرى وضعا علميّا دقيقا حتى أصبح فى ميسور كل ناشئ أن يتقنها، إذ يستطيع أن يقرأ أشعارها فى غير عناء ويفهمها فى غير مشقة ويتذوقها فى غير تكلف، بحيث يستطيع أن يسيغها، بل أن يتمثلها تمثلا دقيقا. على أنه يحسن أن نعترف بأن عربية مولدة أخذت تشيع على ألسنة العامة بجانب العربية الفصحى، وكانت تتداولها الطبقات الدنيا وقد يشركها أفراد من الطبقات الوسطى، وكانت تنتشر فى العراق على ألسنة النبط وأهل الذمة، وساعد على انتشارها تحول مقاليد الحكم العباسى من أيدى الفرس أصحاب الحضارة العريقة إلى أيدى الترك، وكانوا لا يعرفون أى حضارة ولم يكن يعنيهم أن يحسنوا العربية، فاستخدموا اللغة الدارجة فى أحاديثهم، وكان ذلك عاملا مساعدا فى إشاعتها لهذا العصر بين من يعلمون معهم فى الدواوين وأعمال الدولة المختلفة، وليس ذلك فحسب، فقد كان نفر من كتابهم يستظهرون على ألسنتهم بعض الكلمات العامية، وعمّم ذلك بعض الباحثين فى الشعراء، إذ رأوا ابن قتيبة يحيل كتابه «أدب الكاتب» إلى أسواط حامية يشوى بها وجوه الكتاب لعصره معلنا النكير عليهم لعنايتهم بالمنطق والفلسفة والهندسة وعلم الفلك، مسجلا قعودهم عن التثقيف ثقافة عميقة باللغة واشتقاقاتها وأبنيتها، وكيف أنهم لا يعرفون المدلولات الدقيقة للألفاظ ولا مواضع استخدامها، مع جهلهم بكثير من الصيغ وما بينها من الفروق» فهم لا يعرفون فرق ما بين اسم المرة واسم الهيئة فى الصيغة، ولا كيف تتبادل الحروف أمكنتها، وكذلك الأفعال اللازمة والمتعدية، مع ما يلوكون من الكلمات الفارسية.

وطبيعى أن هذه الحملة التى شنّها ابن قتيبة على الكتّاب لا تشمل جمهورهم، إنما هى تشمل أفرادا منهم، لم يكونوا من بلغاء العصر ولا من كتّابه الممتازين، ومن أجل ذلك يجب ألا نعممها فى الكتّاب فضلا عن الشعراء، ويجب ألا يغيب عن بالنا أن اللغويين كانوا لهم بالمرصاد، فمن انحرف منهم عن جادة الفصحى شنّعوا عليه وسقطوا به من حالق سقطة لا إقالة له منها أبدا، إذ كانوا يعدّون أنفسهم حماة الفصحى، وأن من نوّهوا به من الشعراء طار اسمه ومن أزروا به لم تقم له قائمة، وكان الشعراء يسلمون لهم بهذه المنزلة، فكانوا يعرضون عليهم أشعارهم

<<  <  ج: ص:  >  >>