للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولعل فى كل ما قدمنا ما يصور من بعض الوجوه كيف كان الشعراء يتزودون بالعربية الفصيحة أزوادا مكّنتهم من الوقوف على خصائصها ودقائقها الإعرابية والصرفية، بحيث نفوا عن أساليبهم كل الشوائب التى كان من المفروض أن تسيل من العامية المتداولة إلى الفصحى، ولم ينفوها فحسب، بل عملوا جاهدين على أن يحتفظوا بالصياغة العربية الأصيلة بدون أن يدخل عليها نبوّ أو انحراف أو أى اعوجاج أو أى نقص فى الأداء. ويكفى أن يكون همّ جماعة كبيرة من اللغويين أن يتعقبوا سقطات شاعر مثل البحترى فيعوزهم المثال، فيلجئون إلى بعض الضرورات الشعرية عنده يسجلونها، ومعروف أن شاعرا لم يكثر فى هذا العصر كما أكثر ابن الرومى، ومع ذلك لم يسعفهم الفحص فى أشعاره إلا أن يسجلوا فى بناء عنده حركة داخلية على تقدير صحتها إن سلم لهم ذلك. فإذا قلنا إن الشعراء فى هذا العصر تمثلوا العربية وأسرارها التركيبية أقوى تمثل وأروعه لم نكن مغالين ولا مبعدين، بل لقد تمثلوا أسرارها الجمالية كما مر بنا تمثلا بارعا، وهو تمثل جعل الشعراء يعنون عناية بالغة باختيار الألفاظ والملاءمة الصوتية بين اللفظة واللفظة فى الجرس، بل بين الحروف نفسها، حتى يلذ الشعر الألسنة التى تنطق به والآذان التى تستمع له والأفئدة التى تصغى إليه، وما زال الشعراء مكبين على قيثاراتهم يستخرجون منها أعذب الأنغام، حتى استطاع البحترى أن يصل من ذلك إلى كل ما كان يحلم به الشاعر العربى منذ وجد امرؤ القيس حتى عصره، فإذا شعره يستحيل أنغاما وألحانا خالصة.

والبحترى إنما هو رمز لحركة التمسك بالصياغة العربية، بل التمثل لها بحيث تجرى فى نفس الشاعر سليقة الشعر العربى بكل سماتها وشاراتها وبكل معانيها وخواصها، بل بحيث يفقه ذلك كله فقها تامّا دقيقا، بما أتيح له عند العلماء وأصحاب البلاغة من ملاحظات جمالية، تنبع من الثقافة بالشعر السابق قديمه وحديثه ومن الذوق المصفى المتحضر ومن الشعور المرهف الرقيق. وإذا لغة الشعر تصبح تارة رضينة ناصعة كأتم ما تكون النصاعة والرصانة، وحينا تصبح عذبة خفيفة تكاد تطير لخفتها ورشاقتها عن الأفواه طيرانا. ومن هنا كنا نستطيع أن نقول إن أساليب الشعر فى العصر ظل لها رونقها وبهاؤها، بل لقد ازدادت بهاء

<<  <  ج: ص:  >  >>