أن يتعلقوا فى هذا العصر على الشعراء النابهين بأخطاء جوهرية فى اللغة أو فى للتصريف، بل لقد كانوا لا يزالون يلتقطون بعض الضرورات الشعرية ليعدوها أخطاء، وحتى الحركات الداخلية فى الكلمات وأبنيتها كانوا لا يزالون يتعقبونها على نحو تعقبهم لابن الرومى فى كلمة «صندد». وكل ما ذكره المرزبانى وسجله عن علماء اللغة فى هذا الباب لا يعدو مثل هذه الصور التى وصفناها، ومثلها ما حاول بعض معاصريه أن يسجلو مثل الصاحب بن عباد وأبى هلال العسكرى، فإنهم لم يتجاوزا فى الغالب الضرورات الشعرية، مما يدل دلالة قاطعة فى العصر على سلامة اللغة وسلامة الألسنة، وحقّا كما قلنا كانت هناك لغة عامية تتداول فى الحياة اليومية، ولكنها ظلت لا تجور على العربية، وظلت الناشئة فى كل مكان تتغذى بالفصحى وتتلقنها على أساتذتها النابهين. وكان هناك كثيرون لا يزالون يستخدمونها فى حياتهم اليومية العاملة، كان ذلك يرفع منهم فى أعين الناس، حتى ليقول إسحق (١) بن خلف الطّنبورىّ:
النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء تعظمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلّها ... فأجلّها عندى مقيم الألسن
وإذا كان الإعراب فى رأى بعض المغنين أو الضاربين على الطنبور يبلغ هذا المبلغ من المنزلة الرفيعة، فأولى أن تكون منزلته أرفع وأعلى شأنا عند الشعراء الذين عاصروه، وفى الحق أنهم ظلوا يحافظون بكل قوة على الصياغة العربية فى المفردات والتراكيب وعلى قواعد الإعراب والتصريف، بحيث نجد شاعرا ضخما مثل البحترى أو ابن الرومى لا يكاد اللغويون يتعلقون عليه بشئ ذى بال، بل حتى الشعراء الذين اشتهروا بأنهم كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون والذين لم يجالسوا العلماء لأخذ قواعد النحو والتصريف مثل الخبز أرزىّ، الذى كان يخبز بالبصرة خبز الأرز ويبيعه فى دكان متكسبا به، والناس يزدحمون عليه لسماع شعره كان لا يعدو الفصحى فى نظمه.
(١) عيون الأخبار لابن قتيبة (طبعة دار الكتب المصرية) ٢/ ١٥٧.