للرياضى النابه واضع علم الجبر، والكندى الفيلسوف أو أول فلاسفة العرب بالمعنى الدقيق لكلمة فلاسفة، وهما معلمان كبيران فى العصر يدلان أقوى دلالة على نهضة العقل العربى وازدهاره حينئذ، مما عرضنا لبعض مظاهره فى الفصل الماضى.
وحدث فى أثناء ذلك أن أخذ بعض الأدباء يتجرد للمزج بين ثقافات العصر واستخلاص ثقافة عربية لها طوابعها ومشخصاتها المستقلة، على نحو معروف عن الجاحظ المعتزلى، وكان المعتزلة قد أكبوا منذ أوائل العصر العباسى فى القرن الثانى الهجرى على الثقافات الأجنبية يتزودون منها، واستطاع كثيرون منهم أن يكوّنوا لأنفسهم نظريات تتصل بالطبيعة وما وراء الطبيعة مما صورناه فى كتابنا العصر العباسى الأول، ونفذ الجاحظ فى العصر كما قلنا آنفا إلى الوصل فى كتاباته بين الثقافتين العربية والإسلامية والثقافات الأجنبية، بحيث غدت كتبه تغذّى العقول والقلوب، فالأدب فيها يلتقى بالفكر والعلم التقاء خصبا مثمرا، على نحو ما نجد فى كتابه «الحيوان». وخطا ابن قتيبة فى هذا الاتجاه من المزج بين الثقافات خطوة أخرى كما أسلفنا، فمزج فى كتابه «عيون الأخبار» بين الثقافة العربية والثقافة الفارسية مزجا قويا، مزاوجا بين طائفة كبيرة من الآداب فى الثقافة الأولى والآداب السياسية فى الثقافة الثانية، مع ما أضافه من الحكم الطريفة التى جلبها من كتاب كليلة ودمنة المترجم عن الهندية، وكذلك ما أضافه عن الثقافة اليونانية.
كان طبيعيّا لذلك كله أن تنمحى الأبعاد والفوارن؟ ؟ ؟ بين الفكر العربى الخالص والفكر الأجنبى، فإذا هما يمتزجان فى بيئة الشعراء وغيرها من البيئات، وإذا كثير من الشعراء يتعمقون الفلسفة والثقافات الأجنبية، وحقّا ظلت طائفة لا تعنى بهذا التعمق على نحو ما مر بنا فى الفصل الماضى عند البحترى وأضرابه، ولكن حتى هؤلاء وحتى البحترى نفسه لم يستطيعوا التخلص من معرفة بعض جوانب الفكر الأجنبى، على حين نجد كثيرين غيره من أمثال ابن الرومى تعمقوا فى هذا الفكر، بل لقد أقبلوا عليه يلتهمونه التهاما، بل لقد انقضوا عليه انقضاضا، وكأنما لا يريدون أن يبقوا منه بقية. على أنهم لم يفنوا فى هذا الفكر، فقد ظلوا يحتفظون للشعر العربى بشخصيته ومقوماته الأساسية. فهم لا يذيبونه فى الفكر الأجنبى، بل هم يخضعون هذا الفكر له، أو بعبارة أدق هم يتخذون من هذا الفكر وسائل كى يتعمقوا فى تصوير المشاعر