والأفكار التى طالما عرض لها الشعر العربى، مضيفين إليها معانى وخواطر حافلة يما يملأ النفس إعجابا.
ولا ريب فى أن ذلك كان على درجات، فمن الشعراء من كان يغرق فى التثقف بالثقافات الأجنبية، ومنهم من كان لا يشق على نفسه، فهو إنما يلم بأطراف منها تقل وتكثر حسب ملكاته العقلية، ومهما أسرف الشاعر فى هذا الإلمام فإنه يحتفظ لأساليبه بالنصاعة والنقاء، حتى من كان يرجع إلى أصول غير عربية، فقد استقر فى نفوس جميع الشعراء الاحتفاظ بتقاليد الشعر الموروثة وأن يطل شعرهم موصولا بماضيه، وحقّا حاول الشعوبيون أن يشككوهم فى هذا الماضى وأن يقطعوا صلتهم به، ولكنهم لم يصيخوا إليهم ولا استمعوا إلى ضجيجهم، فقد كانت شخصية الشعر العربى فى نفوسهم أقوى من أن تزعزعها أو تهزها صيحات هؤلاء الشعوبيين المارقين، فلم يزايلوها ولا انحرفوا عنها ولا عن أصولها التقليدية. بل لقد استطاعوا أن يثبتوا مرونة هذه الأصول، وأنها تتسع لفنون البديع الجديد التى سجلها ابن المعتز اتساعا كانت تحمل مقدماته فى صدورها من قديم، بل لقد وجدوا فى مرونة هذه الأصول ما يمكنها من أن تحمل كل صنوف الغذاء الفكرى الجديد على اختلاف ألوانها، غذاء الفلسفة والمنطق والعلوم المختلفة وغذاء الآداب الفارسية واليونانية والحكمة الهندية، فكل سيول هذا التراث الثقافى الأجنبى من كل جنس يستوعبها الشاعر العباسى ويتمثلها ويتقنها علما وفقها وتحليلا دون أن ينحرف بشعره عن أصوله الموروثة، بل إن هذه الأصول تونق وتزدهر ويصبح كل ما ينقل إليها من الفكر الأجنبى عربى اللسان والصياغة المصفاة، بل أهم من ذلك أن ذهن الشاعر العباسى يصبح ذهنا عميقا يتغلغل فى حقائق المعانى نافذ إلى دخائلها وأغوارها البعيدة، نفوذا يتيح له ما لا ينفد من الخواطر الشعرية المبتكرة.
وحقا أن هذا العمق فى ذهن الشاعر العباسى يلاحظ منذ بشار ومن تلاه فى القرن الثانى، غير أننا كلما تقدمنا مع الزمن ازداد هذا العمق بعدا فى بواطن المعانى المستمرة، وهو عمق رافقته صور كثيرة من دقة التحليلات والاستنباطات والتقسيمات، فمن ذلك ما يرويه ابن قتيبة من أن بعض الشعراء أنشد الكندى الفيلسوف:
وفى أربع منى حلت منك أربع ... فما أنا أدرى أيها هاج لى كربى