للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخضر فلم يرضه، فأخذ ينشد فيه مقطعات تجاوز بها الخمسين من مثل قوله (١):

طيلسان لابن حرب جاءنى ... قد قضى التمزيق منه وطره

فهو قد أدرك نوحا فعسى ... عنده من علم نوح خبره

أبدا يقرأ من أبصره: ... (أئذا كنّا عظاما نخره)

ولا شك فى أن هذه قدرة بارعة، والحمدونى لم يملكها عفوا، وإنما ملكها واستحوذ عليها بفضل خصب ملكته وما أتاحت الثقافة المعاصرة له من محصول غذاها به، فإذا هو حين يتناول موضوعا مثل طيلسان ابن حرب وأنه خلق بال يستطيع أن يعرضه فى صور متعددة لا تبلغ فى العدد أصابع يد ولا أصابع يدين، بل تتجاوز ذلك إلى عشرات من المقطوعات، ولكل مقطوعة صورتها الطريفة الخاصة.

ويكاد الإنسان يقطع بأنه لا يوجد شاعر فى العصر إلا وقد أذعن للثقافات المعاصرة المتنوعة واتخذ منها غذاء لعقاء وقلبه، وكأن شاعرا لا يستطيع منها فكاكا ولا خلاصا، ونضرب مثلا بالبحترى الذى رأيناه فى الفصل السابق يحمل حملة شعواء على من يكلّفون الشعراء دراسة المنطق والفلسفة، فإننا حين نتصفح أشعاره نجد فيها آثار الثقافات التى عاصرته، حتى لنراه يشيد بالعلم والمعرفة فى بعض ممدوحيه، إذ يقول له (٢):

عرف العالمون فضلك بالعل‍ ... م وقال الجهّال بالتقليد

وهو لا يشيد بالعلم فحسب، بل ينكر أيضا التقليد وكأنه يدعو للاجتهاد واستخدام العقول، بل إنه ليزعم أن التقليد جهل ما وراءه جهل، وحرىّ بمن يدعو هذه الدعوة أن يطبقها على نفسه، وأن يأخذها بالعلم والتثقيف، وكل ما فى الأمر أنه لم يكن يسرف فى ذلك إسراف بعض معاصريه من الشعراء ولا كان يفرغ له، فقد كان يعيش فى شعره مع نفسه أكثر مما كان يعيش مع الثقافة التى


(١) زهر الآداب ٢/ ٢٣٥.
(٢) ديوان البحترى (طبع دار المعارف) ١/ ٦٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>