للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكيف أنهم ينيرون دياجى المشاكل المظلمة بأفكارهم الثاقبة، وكانت مناظراتهم لا تزال دائرة فى العصر على الرغم من استعلاء أهل السنة عليهم، ولكنهم ظلوا يشعلون العراق بحجاجهم وحوارهم وجدالهم وظلوا يثيرون دفائن المعانى بردودهم ومناقضاتهم لخصومهم، مما نرى آثاره عند الشعراء، ومعروف أن الشاعر العربى من قديم كان يشكو طول الليل حتى ليبدو عند بعض الشعراء مظلما لا آخر لظلامه، ويلم ابن بسام بهذا المعنى، فينفى هذا الظلم عن الليل قائلا (١):

لا أظلم الليل ولا أدّعى ... أن نجوم الليل ليست تغور

ليلى كما شاءت فإن لم تزر ... طال إن زارت فليلى قصير

فالطول والقصر نسبيان، وهما معلقان بصاحبته إن هى زارت قصر الليل وإن لم تزر طال، وبذلك نقض المعنى على من سبقه نقضا، منصفا لليل من الشعراء السابقين الذين طالما ظلموه. وقد يقال: وأين شعر المعتزلة الذى استظهروا فيه عقيدتهم الاعتزالية ومصطلحاتهم الكلامية، ويبدو أنه كان لهم شعر كثير فى هذا الباب سقط من يد الزمن، فالمرزبانى فى معجم الشعراء يترجم لشخص منهم يسمى محمد بن دكين المتكلم ويذكر أن له أشعارا يحض فيها على القول بالعدل والتوحيد، غير أنه لا ينشد منها شيئا (٢).

وليست الأشعار الاعتزالية فى نفسها شيئا إلا ما قد تدل عليه من صلة أصحابها المعروفة بالفلسفة والفكر الأجنبى اليونانى وغير اليونانى، وأهم منها ما استودعه هذا الفكر فى العقل العربى من خصب، ليس هو وحده مورده الوحيد، بل لعل تفاعل هذا العقل مع عناصر الفكر الأجنبى كانت أكثر خصبا، إذ استطاع أن يستوعبها ويتمثلها، ويصطنع لنفسه من خلالها مواد لا تقل عنها روعة ولا جمالا، وهى مواد يمكن رؤيتها رؤية واضحة فى كثرة التوليدات العقلية.

ولا نبالغ إذا قلنا إنه لا يوجد شاعر فى هذا العصر إلا وقد نفذ إلى كثير من هذه التوليدات حتى الشعراء الشعبيون من أمثال الحمدونى إسماعيل بن إبراهيم، ويروى أن أحد ممدوحيه وهو أحمد بن حرب المهلبى وهب له طيلسانا (ثوبا فارسيّا)


(١) المختار من شعر بشار للخالديين (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص ٢٠.
(٢) معجم الشعراء ص ٤٠٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>