للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله (١):

ألمّت بنا بعد الهدوّ فسامحت ... بوصل متى نطلبه فى الجدّ تمنع (٢)

وما برحت حتى مضى الليل وانقضى ... وأعجلها داعى الصباح الملمّع (٣)

فولّت كأن البين يخلج شخصها ... أوان تولّت من حشاى وأضلعى (٤)

وواضح ما فى الشطر الأخير بالأبيات الأولى من لفتة ذهنية واضحة، ومثله آخر الأبيات الثانية فقد ولّت وكأنها تنتزع من حشاه وأضلعه وروحه، وكان يعرف البحترى كيف يمس قلب سامعه، كما كان يعرف كيف يستأثر لنفسه ببعض الصور والمعانى، فقد سمع أو حفظ قول القائل فى وصف أحاديث بعض النسوة وما يذعن فيه من جمال وسحر:

إذا هن ساقطن الأحاديث بالضّحى ... سقاط حصى المرجان من كفّ ناظم

فما زال يدير البيت فى نفسه وما زال يحاول أن يضيف إليه إضافة بارعة، وإذا ملكته تسعفه بقوله فى وصف لقائه بمن خلبت لبّه (٥):

ولما التقينا والنّقا موعد لنا ... تبيّن رامى الدّرّ منا ولا قطه (٦)

فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

ولعل أكبر شاعر فى العصر، وذخائر الفكر حينئذ فى الشعر ومدى ما أثرت الحياة العقلية فيه ابن الرومى، ويبدو عنده بوضوح أنه عكف على جميع الثقافات التى عاصرته، وأنه أخذ ينهل منها حتى تحولت إلى ذهنه وقلبه، فإذا هو يستوعبها، وإذا هو يتقنها، بل إذا هو يتمثلها تمثلا نادرا، وكان مما دفعه إلى ذلك دفعا اعتناقه مبكرا مذهب الاعتزال، وفى


(١) الديوان /١٢٣٧٢/.
(٢) الهدو: شطر من الليل.
(٣) الملمع: الممزوج سواده ببياضه إشارة إلى أوائل الصباح
(٤) يخلج: ينتزع.
(٥) ديوان المعانى ١/ ٢٣٨ وانظر الديوان ٢/ ١٢٣٨.
(٦) النقا: قطعة من الرمل.

<<  <  ج: ص:  >  >>