للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شعره ما يدل على حرصه الشديد عليه كقوله (١):

أأرفض الإعتزال رأيا ... كلاّ لأنى به ضنين

فهو يؤمن به ويعتنقه منحازا إليه، ولا يرضى به بديلا، وإنه ليمنحه كل حبه، حتى ليصبح ضنينا به، وكأنه غدا جزءا من جوهر نفسه، ولعله لذلك كان يحسّ بواشجة رحم بينه وبين نظرائه ممن يعتنقون هذا المذهب الذى كان معروفا حينئذ بمبدئين يجادل فيهما أصحابه طويلا، وهما العدل على الله بحيث لا يعطل حرية الإرادة عند الإنسان حتى يكون مسئولا عن أعماله وينال ما يستحقه من الثواب والعقاب، فلا جبر ولا حتم ولا إلزام، ثم التوحيد وما يطوى فيه من تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، فهو ليس بجسم ولا عرض ولا يحده زمان ولا مكان، وإلى ذلك يشير فى بيان علاقته الوثيقة ببعض معاصريه قائلا له (٢):

إن لا يكن بيننا قربى فآصرة ... للدين يقطع فيها الوالد الولدا

مقالة «العدل والتوحيد» تجمعنا ... دون المضاهين: من ثنّى ومن جحدا

وواضح أنه يجعل لحمة الاعتزال فوق لحمة القربى، وكأنه يؤمن بأن القربى دم أما الاعتزال فعقل وروح، وهو لذلك فوق القربى وشائج وأواصر. ولا يهمنا أنه كان يؤمن بالاعتزال من حيث هو، وإنما يهمنا أن الاعتنال وصله بالثقافات الأجنبية على اختلاف صنوفها وألوانها، فقد كان المعتزلة يتصلون مباشرة بهذه الثقافات لدعم عقولهم من جهة ولتبين ما فيها من آراء فاسدة كانوا ينقضونها نقضا، وكانت أهم ثقافة أكبوا عليها الثقافة اليونانية بما فيها من فلسفة ومنطق، وأكبّ معهم كثير من الشعراء-وخاصة من كانوا يعتنقون الاعتزال-على هذه الثقافة ينهلون منها ويعبون، وفى مقدمتهم ابن الرومى الذى يبدو أنه كان يفرغ لها وخاصة فى مطالع حياته وينفق فى ذلك أوقاتا طويلة، مما أتاح لأشعاره أن تصطبغ بأصباغ عقلية واضحة.

وأول ما يطالعنا من هذه الأصباغ صبغ يعم جميع أشعاره كما تعم الخضرة أشجار


(١) ديوان ابن الرومى (نشر كامل كيلانى) ص ٩٢.
(٢) ابن الرومى: حياته من شعره (طبع المكتبة التجارية) ص ٢٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>