للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الطبيعة فى الربيع، ونقصد استقصاءه للمعانى، فهو إذا ألمّ بمعنى لم يكد يترك فيه بقية لأحد من بعده، وكان لذلك تأثير مهم فى قصائده إذ تبدو الأبيات فيها مترابطة ترابطا لا يعرف لأحد غيره من شعراء العربية، ترابطا يجعل البيت لا يفهم تمام الفهم إلا إذا نظر القارئ فيما يسبقه وما يتلوه، حتى لتصبح القصيدة بناء متكاملا متناسقا، مما يوثق الوحدة بينها لا الوحدة الموضوعية فحسب، بل أيضا الوحدة العضوية، إذ تصبح كلا واحدا مؤلفا من أجزاء ولكل جزء أو بيت مكانه، بحيث لو نزع منه إلى مكان آخر لنبا به المكان الجديد. ومنشأ ذلك أن الأبيات يتولد بعضها من بعض، أو قل هى الأفكار والمعانى ما تزال تتوالد وتتشعب، وكل شعبة تنشأ عن سابقتها وتلتحم بها لحمة القرابة، بل لحمة الأعضاء فى الجسد الواحد.

وتتصل بهذا الجانب عند ابن الرومى خصائص عقلية كثيرة، لعل أولها هذا الخصب الذى لا حد له، فقد أصبح العقل العربى يتعمق المعانى حتى يصل إلى قاعها وقرارها، ويستخرج كل ما كان مستورا بها من لآلئ كانت خافية عن الأنظار، بل إن الشاعر يغوص فى مسارب المعانى فيطّلع على شعب لا تكاد تحصى وهما جانبان: جانب التشعيب والتفريع وجانب الكشف والاستقصاء، حتى يتضح المعنى من جميع جوانبه، وحتى نصبح كأننا نستمع إلى صور من الحوار المعروف عند المعتزلة، فهم ما يزالون بحوارهم يثيرون دقائق المعنى حتى ينكشف من جميع أطرافه، وإذا هو واضح أشد ما يكون الوضوح بفضل علم المنطق الذى يستهدون به فى مباحثهم وبفضل ملكاتهم العقلية التى صقلها الفكر الفلسفى.

وكأنما تحولت المعانى الشعرية عند ابن الرومى إلى صورة من صور حوارهم، فهى تتفرع إلى أقصى حد، وهى تتضح أيضا إلى أقصى حد، ولذلك كانت القصيدة عنده تطول طولا مسرفا لا يعرف لشاعر عربى من قبله ولا من بعده، لأن المعانى تذكر بجميع شعبها، وما يزال يستقصيها حتى تبدو واضحة أشد ما يكون الوضوح وهو الوضوح نفسه الذى يشغف به أهل المنطق أو قل من يعكفون على دراسة المنطق. حتى يستأثر بكل ما يفكرون فيه، وحتى يمنحوه عنايتهم الكاملة.

ليس من شك إذن فى أن شعر ابن الرومى يصور تعمقه فى دراسة المنطق وليس

<<  <  ج: ص:  >  >>