للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك فحسب، فإن المنطق بأقيسته وعلله يستحيل عنده شعرا وفنّا، فإذا بنا نتنقل فى طرائف لا تحصى من المعانى، وكأنما أصبحت هذه الطرائف حدودا للشعر، فهو لا يتصوّر بدونها، وإلا يكون شيئا غثّا لا قيمة له، وصوّر ذلك ابن الرومى نفسه فى بعض حواره مع شاعر أنشده شعرا سليما من العيوب مطبوعا عاريا من دقائق المعانى، فقال له: «نحن-أعزّك الله-نطلب مع السلامة الغنيمة» (١). فلا شعر بدون غنيمة أو بدون معنى مبتكر أو بدون قياس سديد أو تعليل لافت دقيق، من مثل قوله (٢):

عدوّك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنّ من الصّحاب

فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب

وهذا التحذير من الصديق يدور فى كثير من الأقوال والأمثال، ولكن الطريف عند ابن الرومى هو التعليل البارع، إذ قاس الصديق على الطعام والشراب الممتعين وكيف يستحيلان أحيانا داء لا شفاء منه، وكأنما يؤتى الحذر من مأمنه، ومن تعليلاته الطريفة تعليله لمحبة الأوطان، إذ يقول (٣):

وحبّب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضّاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم ... عهود الصبا فيها فحنّوا لذلكا

فقد ألفته النفس حتى كأنه ... لها جسد إن بان غودر هالكا

وكان الشعراء قبله يتشوقون إلى أوطانهم ولا يعرفون العلة فى ذلك حتى كشفها لهم ابن الرومى، فكل يتعلق بوطنه ويشغف به، لأنه ملاعب صباه وشبابه التى لا يبرح خيالها ذاكرته، والتى طالما ألفتها النفس وأنست لها، بل لقد التصقت بها التصاق الروح بالجسد، بحيث لو انفصم أحدهما عن صاحبه أصبح فى الهالكين. وتكثر فى شعر ابن الرومى كثرة مفرطة التعليلات والأدلة والأقيسة كقوله فى بعض غزله (٤):


(١) ذيل زهر الآداب (طبع المطبعة الرحمانية بمصر) ص ١٩٠.
(٢) الديوان ص ١٣٩.
(٣) الديوان ص ١٣ وزهر الآداب ٣/ ٩٩.
(٤) زهر الآداب ١/ ١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>