للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وظل الشعراء يقدمون لمدائحهم كثيرا بوصف الأطلال كما مر بنا، ونفذ البحترى من ذلك إلى موضوع جديد هو الحديث عن آثار الفرس ممثلة فى إيوان كسرى على نحو ما هو معروف فى قصيدته السينية التى تعدّ من روائع الشعر العباسى، وفيها يصور أطلال هذا الإيوان التى لا تزال ماثلة جنوبى بغداد إلى اليوم، وكان قد زاره بعد قتل المتوكل، فبكى همومه وأشجانه، وبكى الأطلال الكسروية ودولة الفرس القديمة ودولتهم الحديثة التى أدال منها الترك لعصره وأصبح لهم السلطان والصولجان، فإذا هم يطيحون بالخليفة، وإذا هم يسفكون دمه غير مراعين إلاّ ولا عهدا. وإنه ليذكر يد الفرس فى العصر العباسى الأول وتشييدهم لحضارته ومدنيته، مما يجعله ينوه بمجدهم القديم حتى ليكاد يرفعهم على العرب تحسرا على ما آلت إليه شئون الملك والحضارة فى عهد الترك. وهو لا يكاد يتماسك حزنا وحسرة ولوعة فى مستهل قصيدته لنبوّ ابن عمه عنه، وكأنه يرمز بذلك لقتل المتوكل، فإن أحدا من أهل بيته أو من أبناء عمومته لم ينصره، بل لقد اشترك ابنه وولى عهده المنتصر فى مؤامرة قتله، ويشتد بنفسه تأثير المحنة، فيتجه إلى المدائن عاصمة الفرس القديمة وإيوان كسرى تنفيسا عن نفسه، ويلمّ به كثير من الشجون، ويذكر إيران القديمة واتساع ملكها فى الشمال من باب الأبواب على بحر قزوين إلى جبال أرمينية، كما يذكر رفاهة العيش التى كانت بها، ولين الحياة ونعيمها وتملأ نفسه أطلال الإيوان وما نقش عليها من الرسوم والصور وخاصة ما سجّل بها من تصوير معركة حامية الوطيس بين الفرس بقيادة كسرى والروم وقعت بإنطاكية سنة ٥٤٠ للميلاد، يقول وقد لفظ كلمة الإيوان باسمها الفارسى «الجرماز (١)»:

فكأن الجرماز من عدم الإن‍ ... س وإخلاقه بنيّة رمس (٢)

لو تراه علمت أنّ الليالى ... جعلت فيه مأتما بعد عرس

وإذا ما رأيت صورة أنطا ... كيّة ارتعت بين روم وفرس

والمنايا مواثل وأنوشر ... وان يزجى الصفوف تحت الدّرفس (٣)

وعراك الرجال بين يديه ... فى خفوت منهم وإغماض جرس (٤)


(١) الديوان ٢/ ١١٥٥.
(٢) رمس: قبر. الإخلاق: البل.
(٣) يزجى: يسوق. الدرفس: العلم الكبير.
(٤) خفوت: صمت. جرس: صوت خفى.

<<  <  ج: ص:  >  >>