للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من مشيح يهوى بعامل رمح ... ومليح من السّنان بترس (١)

تصف العين أنهم جدّ أحيا ... ء لهم بينهم إشارة خرس

يغتلى فيهم ارتيابى حتى ... تتقراهم يداى بلمس (٢)

والبحترى لا يبارى فى تصويره الحسى، حتى لكأنما ينقل المشهد بحذافيره، لا لنبصره فحسب، بل أيضا لنلمسه بأيدينا، فهذا الإيوان لم يعد إيوان قصر يكتظ بالترف والنعيم، بل أصبح بناء قبر ضخم لحضارة الفرس الباذخة وحال كل ما كان فيه من أعراس إلى مآتم، غير أن صفحة منه لا تزال ناطقة بشجاعة الفرس ومجدهم الحربى، إذ تجسدت فيها صورة معركة أنطاكية بين الروم والفرس، وكسرى هاجم بجموع جيشه تحت العلم الفارسى الكبير، يمزق جموع الروم تمزيقا، والفرسان بين مهاجم ومدافع ولا صوت فى المعركة ولا جلبة، إنما هو تصوير ولكن بلغ من نطقه وقوة تعبيره أن تظن العين أنها ترى المعركة كأنما تحدث تحت بصرها، بل إن هذا الظن ليزداد فى نفس البحترى، حتى ليندفع إلى الصورة، يلمسها بيده ارتياعا وانبهارا. ويمضى فى الحديث عن الإيوان وثباته على الدهر حتى لكأنما قدّ أو نحت فى جبل عال ويصور ما يجلله من كآبة ممضة، وكأنما هو أليف غاب عنه أنس أليفه، أو زوج محزون لفراق عروسه، فانعكست أيامها ولياليها، بل لقد انعكست ليالى هذا الأيوان فغربت عنه كواكب السعد وأطلت عليه كواكب النحس المقيم، حتى ما كان يرفل فيه من بسط الديباج وستور الحرير نزع عنه نزعا، ومع ذلك لا تزال له كبرياؤه ولا تزال شرفاته شامخة شموخ جبال المدينة والقدس تختال فى ثيابها البيضاء الرائعة. وينقله خياله إلى ماضى هذا الإيوان التليد، فالوفود مزدحمة بأبوابه والجوارى من كل صنف تغص بها المقاصير والغرف، وكأن ذلك كان أول أمس، كان اللقاء والفراق، وصارت الرباع التى كانت مكتظة بالسرور ومتاعه منازل للعزاء والحزن الذى لا يريم، والبحترى يبكيها بدموع غزار، لما كان لأهلها قديما من عون للعرب فى حروبهم من الأحباش وما كان لهم حديثا من عون فى تشييد الخلافة العباسية وما رافقها من ازدهار الحضارة العربية،


(١) مشيح: مقبل. عامل الرمح: صدره مليح: خائف حذر.
(٢) يغتل: يتجاوز الحد ويعظم تتقراهم: تتبعهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>