للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى كتّاب بالحى كان يتعلم فيه الأطفال ذكورا وإناثا مجتمعين، ولفتته ذات يوم بنيّة صغيرة بمحاسنها الدقاق فكتب إليها فى بعض الألواح (١):

ماذا تقولين فيمن شفّه سهر ... من جهد حبك حتى صار حيرانا

وسرعان ما أجابته البنيّة فى نفس اللوح على البديهة:

إذا رأينا محبّا قد أضرّ به ... جهد الصبابة أو ليناه إحسانا

وفى بعض الروايات أن هذا البيت أول شعر نظمه، وكأن هذه البنيّة هى التى ألهمته الشعر وأنطقته. وكان لا يزال يملأ الدار على أبيه شغبا وعبثا ولعبا، فسأل معلمه فى الكتّاب أن يحبسه تأديبا له، وأجابه المعلم إلى حبسه، فاغتاظ على من أبيه غيظا شديدا، ولم يلبث أن كتب إلى أمه فى شقّ لوح مستغيثا (٢):

يا أمّتا أفديك من أمّ ... أشكو إليك فظاظة الجهم

قد سرّح الصبيان كلهم ... وبقيت محصورا بلا جرم

وتوسطت له أمه عند أبيه وأطلق سراحه، وكأنما كان هذا الهجاء لأبيه إرهاصا بما سيصير إليه من حدة لسانه التى سيصلى فيما بعد نارها. والحادثتان كلتاهما تدل على أن موهبته الشعرية تفتحت مبكرة، فإنه لم يكد ينهى دروسه فى الكتّاب حتى كان قد أصبح شاعرا ينظم الشعر فى يسر. وكانوا يتعلمون فى الكتّاب شيئا من علم الحساب ومن النحو والعروض وبعض سور القرآن وبعض الأشعار والأحاديث النبوية. ولا ريب فى أنه كان يغدو ويروح بعد ذلك مع الشباب إلى حلقات العلماء المتكلمين فى المساجد ينهل منها، وربما اطلع على شئ من علوم الأوائل صنيع لداته فى عصره. وكانت فى المسجد الجامع حلقة كثيرا ما اختلف إليها وكثيرا ما اجتذبته، ونقصد حلقة الشعراء إذ «كانوا يجتمعون كل جمعة فى القبة المعروفة بهم فى جامع بغداد، ينشدون الشعر ويعرض كل منهم على أصحابه ما يكون قد نظمه بعد مفارقتهم فى الجمعة السابقة». وفى هذه الحلقة تعرف


(١) الديوان ص ١٨٤.
(٢) الديوان ص ١٨٠ والجرم: الذنب.

<<  <  ج: ص:  >  >>