للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم أر كالدنيا حليلة وامق ... محبّ متى تحسن بعينيه تطلق

تراها عيانا وهى صنعة واحد ... فتحسبها صنعى لطيف وأخرق

وحين سمع بعض خصومه البيتين شنّعوا عليه بأنه ثنوى يؤمن بإلهى النور والظلمة، وشاع ذلك فى عامة بغداد وكانت غالبة عليها حينئذ، فخافهم البحترى على نفسه وخرج إلى منبج. ويبدو أن إقامته بها لم تطل وأنه عاد منها إلى سامراء وبغداد بعد حين إذ يحكى الصولى أن أول ما رأى البحترى سنة ٢٧٦ بمجلس المبرد فى مسجده ببغداد. ونظن ظنّا أن رحلاته إلى العراق لم تنقطع إلا بعد قبض الموفق على صديقه إسماعيل بن بلبل سنة ٢٧٧ وكأنما كانت هذه الحادثة سببا فى أن يصمم على مبارحة العراق إلى الأبد. وربما ولّى وجهه حينئذ نحو مصر وصاحبها خمارويه (١). ويبدو أنه كان يلقاه فى رحلاته بالشام، ثم مدّها إلى مصر للقائه.

ويؤكد نزوله بها كثرة مدائحه لكاتب خمارويه إسحق بن نصير. غير أنه كانت علته كبرة فلم يقم بمصر طويلا وعاد إلى منبج، وظل بها سنواته الأخيرة حتى لبّى نداء ربه لعام ٢٨٤.

وكان البحترى يأخذ بحظوظ مختلفة من الثقافة الإسلامية والعربية فى عصره، وليس معنى ذلك أنه تخصص فى أحد فروعها، ولكنه كان يلم بها، إذ كانت حلقاتها مفتوحة للصادر والوارد فى جميع أنحاء العالم العربى حينئذ، ويرمز إلى ذلك فى شعره أننا نراه فيه يعرض لبعض اصطلاحات علم الحديث، إذ يقول فى مديحه لإبراهيم بن الحسن بن سهل (٢):

خلق أتيت بفضله وسنائه ... طبعا فجاء كأنه مصنوع

وحديث مجد عنك أفرط حسنه ... حتى ظننّا أنه موضوع

وفى ذلك ما يؤكد صلته بالدراسات الإسلامية لعصره من حديث نبوى وتفسير وفقه، وبالمثل كان على صلة بالدراسات العربية من تاريخية ولغوية ونحوية، وهذا طبيعى لأنه أعد نفسه ليكون شاعرا مرموقا، فكان لا بد له أن يتزوّد من اللغة ومن


(١) النجوم الزاهرة ٣/ ٩٧.
(٢) الديوان ٢/ ١٣١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>