النحو ومن التاريخ العربى الإسلامى، ونراه فى بعض شعره يعرض لعالم لغوى فى عصره هو الفضل بن محمد اليزيدى، رآه يزرى على جميل وكثيّر، فيقول إنه لا علم له بالشعر، وكل علمه إنما هو التعمق فى الفاعل والمفعول (١).
وكان لا يبارى فى ثقافته بالشعر، مما جعله يضع فيه ديوان حماسة مشاكلة ومشابهة لأستاذه أبى تمام فى حماسته المشهورة، ويقول ابن النديم إن له كتابا ثانيا فى معانى الشعر، غير أن هذا الكتاب سقط من يد الزمن. والكتاب الأول كاف فى تصور إكبابه على الشعر القديم إكبابا منقطع النظير. وبالمثل كان يكبّ على دواوين الشعراء المحدثين، مما أتاح له ثقافة شعرية واسعة. ولكن هل نستطيع بذلك كله أن نقول إن البحترى كان مثقفا بالثقافة الحديثة لعصره وما يتصل بها من علوم الأوائل؟ حقّا له قصيدة، كما أسلفنا، أكثر فيها من ذكر النجوم، ولكن هذا لا يعنى أنه كان ملمّا بعلم الفلك والنجوم لعصره، فقد كان منصرفا عن هذا العلم وغيره من علوم الأوائل. وكان إذا ألم بها يلمّ من الظاهر إن صح هذا التعبير، فهو لا يتعمقها أو هو بعبارة أدق لا يستطيع أن بتعمقها إذ كانت نشأته نشأة بدوية كما لا حظ القدماء، وإن كان قد تحضّر فيما بعد، ولكنه ظل بعيدا عن الفقه بالثقافة الحديثة، وخاصة الثقافة الفلسفية والمنطقية.
وكانت قد أخذت تتكوّن فى النقد والبلاغة-كما أشرنا إلى ذلك فى غير هذا الموضع-ثلاث بيئات: بيئة محافظة مسرفة فى المحافظة ترى أن الشعر ينبغى ألا يقاس إلا بالمقاييس العربية الخالصة، وهى بيئة اللغويين، وبيئة مجددة مسرفة فى التجديد ترى أن يقاس الشعر بمقاييس البلاغة اليونانية، وهى بيئة المتفلسفة، ممن كانوا يترجمون عن اليونان أو يقرءون ما ترجم عنهم، وبيئة معتدلة، فهى لا تحافظ محافظة اللغويين ولا تجدد تجديد المتفلسفة، بل تقف موقفا وسطا، فهى تقرأ ما يترجم وهى تنظر فيما أثر عن العرب من ملاحظات بلاغية، ثم تحاول أن تنفذ من ذلك إلى مقاييس للبلاغة العربية تزنها موازين دقيقة، وهى بيئة المتكلمين، على نحو ما نعرف عن الجاحظ فى كتابه البيان والتبيين، وانحاز الشعراء غالبا إلى البيئتين المحافظة والمعتدلة، وقلما انحاز أحد منهم إلى البيئة الثالثة