لأنها كانت تجافى الذوق العربى. غير أن هذه البيئة أخذت تشنّ حسلات شعواء على بيئة المحافظين وخاصة على ممثلها البحترى الذى لم يكن يتقن الثقافة الفلسفية، ونرى بعض من يمثلون البيئة المعتدلة ينضمون إلى هذه الحملة بعامل المنافسة بينهم وبين البحترى وفى مقدمتهم ابن الرومى. وكانت قد ساءت العلاقة بين البحترى وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر صاحب شرطة بغداد، ونظن ذلك حدث فى بعض فترات عزله عن وظيفته، وسارع البحترى فلمّح إليه فى بعض شعره بما يشبه الذم، وردّ عليه عبيد الله يمدّه صديقه ابن الرومى بأشعار ملتهبة، ويبدو أنهما ندّدا بضعف ثقافة البحترى وأنه لا يعرف فلسفة ولا منطقا، مما جعله يهجو عبيد الله ببائية يقول فيها (١):
كلّفتمونا حدود منطقكم ... والشعر يغنى عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو القروح يلهج بال ... منطق ما نوعه وما سببه
والشّعز لمح تكفى إشارته ... وليس بالهذر طوّلت خطبه
وحقا لم يكن امرؤ القيس الملقّب بذى القروح يعرف فلسفة ولا منطقا لا لأنه صدّ عن ذلك، ولكن لأن عصره كله لم يكن يعرفهما، ولو أنه تأخر به الزمن إلى عصر البحترى لعكف على الفلسفة والمنطق كما عكف ابن الرومى وأضرابه وغذّى بهما شاعريته غذاء رفيعا. وهو يلمّح فى الشطر الأخير إلى ابن الرومى وما اشهر به من مطولات شعره.
وقد ساعد الذوق المحافظ الذى ساد فى العصر كما أشرنا الى ذلك؟ ؟ ؟ مرارا-إلى أن ترجح كفّة البحترى المحافظ كفّة ابن الرومى المجدد، وأن يقف فى صفّه لا علماء اللغة وحدهم من أمثال المبرد بل كثرة كثيرة من الشعراء، على حين كان ابن الرومى يعيش لعصره فيما يشبه عزلة من معاصريه مع تفوقه على زميله تفوقا واضحا بملكاته الشعرية الخصبة، ولكنه لم يكن يحتفظ للشعر بصياغته الموروثة وتقاليدها على نحو ما يحتفظ البحترى، فوقع بعيدا عن ذوق الكثرة الغالبة من الشعراء والنقاد.