للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليس معنى ذلك أن البحترى انفصل تماما عن روح العصر، فقد كان يلائم بين شعره وبين تلك الروح عن طريق ثقافة واسعة بشعر أستاذه أبى تمام وشعر من سبقوه. . . أمثال مسلم وأبى نواس وبشار، المرة تلو المرة، والمرات تلو المرات، حتى أصبح ذلك جزءا لا يتجزأ من جوهر شعره، ولذلك نعته معاصروه طويلا بأنه يغير على أشعار من سبقوه فيسلبها لنفسه، وفى ذلك يقول ابن الرومى لأبى عيسى العلاء بن صاعد حين نشر الأمن فى ربوع بغداد (١):

أيسرق البحترىّ الناس شعرهم ... جهرا وأنت نكال الّلصّ ذى الرّيب

وأهم ديوان ألحّ على تمثله ديوان أستاذه أبى تمام، ولا حظ ذلك كله القدماء فأفردوا سرقاته بالبحث، وكان أول من عنى بذلك عنده معاصره أحمد بن أبى طاهر؛ إذ استخرج له ستمائة بيت ردها إلى أصولها عند الشعراء وخاصة عند أبى تمام، وقد بلغ ما سلبه منه فى رأى ابن أبى طاهر مائة بيت. وتلاه بشر بن تميم بمصنف ذكر فيه سرقاته من أبى تمام، وعليه اعتمد الآمدى فى الفصل الذى عقده لهذا الجانب من سرقات البحترى. وفى رأينا أنه استطاع بذلك أن يتلافى نقص ثقافته الحديثة، فقد خالط الشعراء المحدثين وخاصة أبا تمام مخالطة نادرة، بحيث تمثل المعانى والأخيلة الحديثة، بل قل بحيث استخلصها لنفسه، وأخذ يصدر عنها كما يصدر الضوء عن الشمس والشذى عن الزهرة. وحقّا أنه يوجد بون بعيد بين عرض هذه الأخيلة والمعانى عنده وعند أبى تمام، فقد كان أبو تمام يغمس أفكاره وأشعاره فى ليقة المنطق، فإذا القصيدة عنده توشك أن تتحقق فيها الوحدة العضوية، فالمعانى والصور يتولد بعضها من بعض ولا خنادق ولا ممرات بين الأبيات، على حين تكثر هذه الممرات والخنادق عند البحترى، ولا حظ ذلك القدماء فقالوا إنه لا يحسن الخروج من موضوع إلى موضوع فى الشعر (٢)، لسبب بسيط وهو أنه لم يكن يخضع فى شعره للمنطق على نحو ما صرّح بذلك آنفا. وظاهرة ثانية هى أنه جارى أستاذه فى


(١) ديوان ابن الرومى (نشر كامل كيلانى) ص ٣٥.
(٢) العمدة لابن رشيق ١/ ١٥٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>